السبت، 1 أغسطس 2009

القصة القصيرة ـ رواية الرحيل للأديب المصرى الراحل محمود البدوى


رواية الرحيل نشرت فى عام 1935

الرحيل

( 1 )
شعر حسن وهو جالس على مقعد طويل فى السفينة بوحشة شديدة على غير ما كان يتوقع ويقدر يوم أن كان يعد العدة للسفر ويأخذ أهبته للرحيل ويروح يحلم ألذ الأحلام ويتمنى أعذب الأمانى ويقطع النهار كله متنقلا بين مكاتب السياحة متخيرا البلد المناسب ..
فلما استقر رأيه على السفر إلى أوربا الوسطى ، على أن يبدأ بتركيا وينتهى عند المجر طار قلبه فرحا فليس بعد البسفور والدانوب متعة ..
على انه بقى مترددًا فى اختيار يوم الرحيل مدة من الزمن حتى عزم على أن يكون الأسبوع الأول من أغسطس .. وأن يسافر خفية فلا يحس بسفره إنسان .. ولم يكن ذلك إلا لإحساس مبهم قوى خامره فى ذلك الحين تولدت عنه رغبة شديدة فى ألا يودعه على الباخرة أحد ..
على أن ذلك الاحساس بالوحشة الذى شعر به حسن ، شعر به كل مسافر فى الواقع مع تفاوت بينهم فى الدرجة ، ومنشأه فى الغالب الشعور بمرارة الفراق فى الساعة التى تقلع فيها السفينة وترسل فى الجو صفيرها وتقذفه بمارجها ..
ولما استدارت السفينة ثم اعتدلت واتجهت فى عرض البحر ملقية الإسكندرية وراء ظهرها ، قام يتمشى فى مماشيها وهو ثائر النفس مهتاج الخاطر وكان الركاب قد خرجوا إلى الحواجز الجانبية يرقبون المدينة وهى تختفى مع مغرب الشمس وتنمحى تدريجيا كلما أوغلت السفينة فى اليم ..
وفتنه قرص الشمس وهو يصافح الماء على مهل ثم يتدلى ويغيب فى جوفه بعد أن يرميه بالنضار ويقذف الموج بالشعاع الأصفر الراقص ..
وسره المنظر وسحره وكان لم ير قبل اليوم مغرب الشمس فى البحر أو لعله رآه ولم يلتفت إليه ولم يعره باله ، شأن أمثاله من الشبان الذين لا يحفلون بالطبيعة فى سن الحداثة وهم رائحون مع الصبا بقلوب نزقة ، مقبلون على متع الدنيا بصدر رحب ، غافلون عن كل ما فى الوجود الخارجى من متع ومناظر ، محصورون بكليتهم فى وجودهم .. والشأن غير ذلك فى البحر والمرء مجبر فيه على أن يفتح عينه للطبيعة ويعير باله للوجود ..
ولما زحفت غيابات العشى قفل إلى غرفته فى السفينة وخلع حلته ولبس جلبابا خفيفا ، واستلقى على سريره يطالع ، والمطالعة أنيسه الوحيد فى وحدته وفتح نافذة الغرفة الصغيرة فلمح البحر وهو يداعب السفينة على متنه الوادع
وسمع دقات خفيفة على الباب
- تفضل ..
- العشاء يا سيدى ..
ولاحت الوصيف على الباب ..
- الآن ..؟
ولم يكن تعود العشاء فى منتصف الساعة الثامنة وحتى فى منتصف العاشرة .. وإنما كان غالبا ما يتعشى قبل نصف الليل بقليل أى أن يأوى إلى فراشه مباشرة مخافة أن تصرفه الكظة عن المطالعة وإن كان فى هذا يخالف قواعد الطب ولا يجرى على قانون الصحة ..
فرفع وجهة إلى الخادم وقال :
- أنا تعب قليلا .. هات الطعام هنا بعد ساعة ..
وخرجت الوصيف واستأنف المطالعة ثم تعشى عشاء خفيفا ونام ..
***
( 2 )
استيقظ حوالى الساعة الخامسة صباحا ، وصعد إلى سطح السفينة فاتحًا صدره لهواء الصبح العليل ومرسلا عينه إلى الأفق وقد غشيته سحب الصيف الخفيفة وكسته بألوان رائعة ..
وجلس يستقبل مطلع الشمس وقد لذته طراوة الهواء وأنعشته بهجة الصباح .. وكان الركاب قد نفضوا عن أنفسهم غبار الكرى ومضوا يستقبلون مثله شروق الشمس ويمتعون أبصارهم بروعة البحر .. ثم هبط بعد مدة إلى غرفته وارتدى حلته ، وكان قد كان عزم على الافطار على المائدة العامة .. ومضى إلى قاعة الجلوس وتطرح على أريكة جوارها بعض الكتب فأخذ يقلب صفحاتها حتى دق جرس الطعام فمشى إلى المائدة متثاقلا .. فألفى مكانه على مائدة صغيرة لأربعة أشخاص وكان ترتيب الموائد – كما بدا له – على حسب أرقام الغرف فأيقن أن الجالسين معه جيرته .. وهم رجلان وامرأة ، تبادل معهم كلمات فاترة ثم التهم طعامه بسرعة وقام عن المائدة إلى البهو الكبير ..
ولما كثر فيه الجلوس ، واشتدت رائحة التبغ ، بارحه وكان الضحى قد تلع ولألأت الشمس حواشى الأفق وصفحة الماء ، فتأبط كتابا وصعد إلى ظهر الباخرة ، وأضطجع على مقعد خشبى طويل يطالع ، وكان جواره ملاعب السفينة وهى أرجوحة للأطفال وملاعب أخرى مما يتسلى به الرجال فى السفر عادة ..
وكانت الأرجوحة على يمينه وعندها غلام يدفع فتاة دفعًا قويا .. فلما أشرف حسن عليها توقف الغلام عن دفع الأرجوحة – خجلا على ما يظهر ـ وأخذ يرشق حسنًا بنظرات حادة وكان نظر الفتاة ألين وأرق .. ثم استأنفا اللعب بعد برهة قليلة ، على أنهما تشاجرا بعد دقائق شجارا استعملا فيه الأيدى .. فقام حسن وحجز بينهما وابتدرته الفتاة قائلة :
- عاوز يتمرجح طول الوقت وأنا لأ ..!
فدهش من عاميتها الحلوة ولم يكن يتصور من لون عينيها وبشرتها أنها مصرية ..
وظهر الغيظ على ملامح الغلام وقال بحدة :
- أنت كذابة .. أنا ..
فقاطعهما حسن بقوله ..
- الأمر بسيط جدا .. سأجلس حكما بينكما ولكل منكما دقائق خمس ..
وسرا من حل المعضلة التى كانت تجرهما دائما الى النزاع على هذه الصورة البسيطة ، وانطلقا يتمرجحان ، ولما تعبا مشى الغلام يلعب بحبال كتانية كانت جواره ووقفت الفتاة امام حسن ترمقه بعينيها وعلى وجهها دلائل من يود الكلام ولكنه لا يستطيع ..
وهى وان كانت صغيرة فى السن – كانت فى عامها التاسع - التى تبعد فيها الفتاة كل البعد عن الاحساس بالخجل على أن مخاطبة الغريب لم تكن بالامر الهين على الاطلاق ..
ولما أدرك حسن حالها قال بلطف :
- أأنت مصرية ..؟
- آه من الإسكندرية .. أنت ما شفتش بيتنا الجميل فى الرمل ..؟ بابا بناه من سنتين ..
- والى اين ذاهبة ..؟
- الى أتينا.. بلد ماما .. ماما تزور أهلها كل سنة .. ماما تحت فى الكابينا مع نعمات هانم الست التركية .. الكابينا فيها اربع سراير .. واحد لماما وواحد لنعمات هانم وواحد لكامل .. وواحد لى أنا .. أنا مارضاش أنام معاه لأنه بيرفص وهو نايم وبيشخر كمان ..!! وأنت بتنام مع الرجالة ..؟
- لا لوحدى ..
- لوحدك ..؟
- فى كابينا صغيرة بسرير واحد ..
- رايح أتينا ..؟
- لا .. بودابست ..
- بودابست .. من هنا .. ازاى ..؟
- فى البحر لغاية ..
وهنا سمع صوتا ناعما يقول بالفرنسية :
- ما هذا يا كامل أجننت ..؟
فانتبه نحو الصوت فالفى سيدة فى لباس وردى تهرول نحو الأرجوحة – وكان قد عاد اليها الغلام – وربتت الغلام على خده وجرت اليها الفتاة .. واستغرق حسن فى الكتاب عما حوله ..
***
( 3 )
انحدرت الشمس عن الأفق ووضعت خدها على الماء وتغشى الأفق بعد الغروب سحاب جون تكاثف وتراكب حتى غدا سميك الاهاب كثيف الجلد ، سقط على الافق الغربى سقوط الليل الفاحم وبسط جناحيه بسط النسر الكبير ..
وكان حسن مرتفقا على الحاجز الخشبى للممشى الجانبى وعينه إلى الأفق ، مطلقا لتفكيره الجامح العنان .. فان كانت بهجة الأفق وروعة المنظر ولين الهواء ، قد صرفت ذهنه عن الخواطر السوداء التى استحوذت عليه فى العشرين يوما الأخيرة ، حتى نالت من جسمه وعقله ، فقد كانت تعاوده من حين لحين فى وقت معين فيقع تحت سلطانها تماما ..
وزحف عليه الليل وهو واقف مكانه وعينه إلى الموج الذى أخذ يتضارب مع مقدم السفينة ويرسم خطا أبيض يرفض فى جبين البحر ارفضاض الشفق الأحمر عن الصبح الوليد ، ويبصر الدوائر البيضاء وهى تنداح وتضطرب مائجة ثم تتلاشى تدريجيا وتنقلب زرقاء رائحة فى غرب الموج ..
ولذة المنظر وسحره ففتح صدره للوجود واستدار يزفر ويتمطى ، فعل الذى يود أن يزيح عن صدره هما ثقيلا لسرور طارئ وبهجة خلت ..
فالفى على مدى اذرع قليلة منه امرأة واقفة تعتمد على عمد الممشى ترقب البحر .. ولم يتبين منها غير ثوبها السنجابى وشعرها الغدافى الجثل .. وكان الجانب الأيسر من وجهها وهو الذى يستطيع رؤياه قد سقط عليه ظل سارية الباخرة فلم يستطع أن يتبين منه غير صورة غامضة أغمض من ظلها على البحر ..
نظر حسن إلى هذا كله نظرة خاطفة ثم حول وجهه إلى البحر ثانيا .. وساوره عند ذلك إحساس غامض لا يخلو من بعض القلق والاستياء .. والحق أنه استسلم للوحدة والتذ بها .. فمجرد وجود أى انسان معه .. حتى وان كان ذلك الإنسان امرأة .. فى مكان لم يختر الوقوف فيه إلا لخلوه التام من الناس ، كان معكرا لصفو نفسه مقلقا لوحدته .. على أن ذلك لم يمنعه من الالتفات إلى ظل المرأة فى الماء وهى واقفة كالتمثال لا تتحرك .. ثم ما لبست أن أخذت تنظر إلى ناحيته نظرات جانبية من حين لحين .. وحول وجهه ناحيتها وتصادف أن كان ذلك فى الوقت الذى تحولت هى فيه ناحيته أيضا .. فالتقت عيناهما مدة وجيزة وقد راقه محياها الجميل جداً ..! وأدار وجهه بعدها إلى الأمام وانطلق يصفر صفيرا ليس بالممتع المتناسب مع روعة المنظر وطراوة النسيم بيد أنه قنع به عن الصمت التام ، والظاهر أن الصفير الذى لا انسجام فيه ولا فن ولا موسيقى ضايق المرأة فبصر بظلها ينسحب عن البحر .. فسر لهذا وامتعض فى آن ..
***
( 4 )
قام حسن عن فراشه فى صباح اليوم التالى ضيق الصدر مكروب النفس فقد ساورته فى ليلته الماضية أحلام جنسية مروعة انفجر فيها عقله الباطن وفعل معه الأفاعيل ..
فقد رأى فى حلمه نساء ممن عرفهن فى ماضى أيامه – وكن الآن راسبات فى قرار النسيان – جمعهن مجلس واحد وظهر وسطهن بمظهر الراغب فيهن رغبة جنسية عنيفة .. فمنهن من ردته ردا جميلا كأن اعتذرت بوجود العائق فى المنزل ..!! ومنهن من استهولت الطلب فرفضت على طول الخط .. ومنهن من استجابت رغبته ..
والواقع أنه وإن كانت ربطته بأولئك النسوة رابطة قوية ولكنه يعدها صداقة بريئة .. فما كان يقدر مطلقا ولا يتصور أبدا ما حلم به الليلة ، فهاله الأمر جدا ، وجسم خطورته على نفسه دراسته لنظرية فرويد فى الأحلام دراسة واعية .. فأخذ يدرك أنه قد يكون كبح عنهن جماح نفسه وردها عما ترغب وتشتهى .. والرغبات المكبوتة تختزن فى عقله الباطن وتتجمع حتى ضاق بها ذرعا فانفجرت بهذا الشكل العنيف الليلة لا لشيء سوى أنه بصر على سطح السفينة بامرأة ذكرته بنساء شغلن تفكيره قبل النوم إلى حد ما ، وقنع بهذه النظرية وراح يتمشى فى السفينة حتى حميت الشمس فمال إلى مقعد فوق محركات السفينة وجلس عليه ، مستريحا إلى نغمة الآلات وحركتها المتزنة متصورا فيها موسيقى منسجمة أخذت من فن الأنغام بنصيب كبير ..
وهنا مرت عليه وهو على حاله تلك الفتاة الصغيرة التى كانت تتمرجح أمس فلما بصرت به عرفته وحيت وجلست بجانبه دون تردد تجاذبه أطراف الحديث ..
وبصر عن بعد بسيدة قادمة من مؤخرة السفينة تسير على مهل لترقبهما بامعان وتملأ عينيها منهما .. فلما قربت منهما أسرعت ولما حاذتهما مالت بعنقها إلى الفتاة وقالت وأنفاسها عالية ووجهها متحول عن حسن تماما :
- ألم ترى ماما يا إقبال ..؟
فأجابت الفتاة :
- يمكن فى الصالون ..
ووقفت السيدة بعد سماعها هذا وقفة المتردد مدة من الزمن ورأسها مائل عن حسن كأنها لا تشعر بوجوده .. ولما انقضت فترة التردد بارحتهما ..
ومالت الفتاة الصغيرة إلى أذن حسن وأسرت :
- نعمات هانم ..
فعلق حسن نظره بالسيدة حتى غابت فى الممر ، وحمى دمه لما تبين جسمها الناضج ، وبرزت أردافها المكتنزة المستديرة وهى تدبر عنه فى خطوات بطيئة وأيقن بعد أن تمعن فى وجهها وعينها وشعرها أنها نفس المرأة التى بادلها النظرات ليلة أمس عند مقدمة السفينة ..
وبارحته الفتاة الصغيرة بعد مدة .. فعاد يقرأ محاولا أن يصرف عن ذهنه الأفكار الجنسية التى حلت به ..
وكان من عادته أن ينام بعد الغداء مباشرة ليصحو إلى ما بعد الهزيع الثانى من الليل ويتمتع بمنظر البحر فى سكونه فلما تغدى انقلب إلى غرفته وتطرح على السرير محاولا النوم .. فهفا إلى سمعه صوت الراديو فاستراحت أعصابه إلى موسيقاه الهادئة وكانت نغمات فردية من عازف على الكمان ، وانقطعت الموسيقى وخيم بعدها الصمت فأغمض عينيه لينام على أن النوم لم يطرق جفنيه وبقى يتقلب على فراشه وهو مغمض العينين مغريا النوم بذلك على زيارته .. فبدلا من أن يزوره رفعت إلى مخيلته فجأة – من غير سابق تمهيد – صورة قرية ريفية صغيرة من قرى مصر ، ثم برز منزل من منازلها بشكل واضح جدا فاغتاظ من هذا المنظر واهتاج وتقلب على فراشه حاسا بألم جسمانى عنيف ، تصلبت معه عضلاته وأرفضت عروقه وجاش دمه وأحس بمثل وخز الإبر فى قدميه ، فمد رجليه وراح يتمطى والدم الثائر يكاد يحبس أنفاسه .. ولما اشتد عليه الأمر قفز إلى الأرض وانطلق يتمشى والصور الذهنية تتراقص فى مخيلته وتتجسم وتنقلب مروعة شنيعة وكان كلما حاول طردها أو نقلها من رأسه والتحول بذهنه إلى شيء آخر ازدادت ثباتا وتجسما ووضوحا .. على أنه وجد أن السير الخفيف حتى وإن كان فى غرفته الصغيرة خير له من التمدد على السرير ألف مرة .. لأن الحالة الأخيرة .. كما تصور – سبيل لتركيز الخواطر بعكس الحالة الأولى التى هى مدعاة لانتقالها .. ولما شعر بأن الرواح فى الغرفة جيئة وذهابا أفاده قليلا دفع باب غرفته وخرج يتمشى .. وأخذ يهون على نفسه الأمر ويديره على وجوهه المعقولة ..
لو أنه كان هناك مثلا لاستطاع أن يعمل شيئا .. شيئا ما .. أما وبينه وبينهما هذا البعد كله فان مجرد تعذيب نفسه بهذه الصور حماقة بالغة .. وهب أن ظروف حياته فى وقت معين جرته إلى الاتصال بامرأة اتصالا روحيا لم يعده إلى غيره .. ثم جاء من أكمل هذا النقص من جانبه مع هذه المرأة بعينها فمن الملوم ..؟ أن المرأة فى الواقع لا تقنع إلا بالعمليات فقط وهى ليست خيالية جامحة الخيال كالرجل حتى ترضى بحب أفلاطونى سخيف .. والتفكير الجنسى عندها يشغل تسعة أعشار وجودها فمن الحماقة التى ليس بعدها حماقة أن يتصور حبه السخيف هذا ترك فى نفسها أثرا ما .. حتى وإن دامت العلاقة سنوات سبع ..
أما غريمه كما كان يسميه ، والمعدوم الصفات الخلقية والمواهب الجنسية والقوى الجسمية ، والذى لا ميزة فيه مطلقا كما كان ينعته ، فقد تقدم إلى هذه المرأة بجرأة فاستسلمت له ، لأنها تود باستسلامها أن تقضى منه أمرا يهمها .. وحملتها الظروف والأمور التى لم تنته بعد على استمرار هذه العلاقة الشائنة مع هذا الرجل عامين كاملين بعد أن أمنت جانب القول وألسنة الناس .. لأن لا أحد من أسرتها أو أسرة زوجها يمكنه أن يتصور وجود هذه العلاقة على الإطلاق .. والمرأة متى أمنت هذا الجانب على الخصوص تمادت فى الطغيان وجنحت إلى الخيانة والاستخفاف بزوجها بشكل مروع .. سيما إذا كان الزوج طيب القلب معصوب البصر دائما ، كزوج صاحبته تلك ( اتفو .. ) ولا شيء جديد فى هذا .. والخيانة طبع المرأة منذ القدم وهى كلما كان لها عشاق كان ذلك خيرا لها وأوفق .. ومن قصور الذهن وانحطاط الادراك أن يتصور نفسه ترك فى قلبها أثرا ما ، ولا شيء كان بينهما مما يحبب الرجل الى المرأة ، غير أحاديث كانت فى وقتها طلية فاذا بها اليوم بلغت مبلغا لا حد له من السماجة ..! ولم يكن تمسكها به فى الواقع وحرصها على صداقته – كما كان يسمى هذه العلاقة السخيفة – إلا ليكون إحتياطيا عندها تعده للظروف المستقبلة .. فهو أصغر سنا .. كان فى الخامسة والعشرين من عمره .. وأعز فتوة .. وأحلى شكلا من الزوج .. والعشيق معا ومن هنا كان المستقبل له .. ففى الوقت الذى تجتوى فيه العشيق وتطرحه عنها وتلقيه باشمئزاز كجورب قديم .. وهو ما سيحدث غالبا .. تتقدم إليه بوسائل وحيل جديدة فيصبح وهو الاحتياطى – وغاظته هذه التسمية – فى المحل الأول .. وهى لاشك باحثة فى الوقت نفسه عن إحتياطى آخر .. هذه هى المرأة .. والمرأة المستهترة على التعيين .. ثم ما معنى أن يكون فى حوزته شيء يستطيع أن يفعل به ما يشاء ويهوى ، فاذا افلته عن طوع ، راح يحز عليه بنان الندم ويقطع نياط قلبه أسفا ، لقد كانت هذه المرأة بين يديه مستسلمة له بجسمها تغريه بمفاتنها فراح يتصور أن اتصاله بها دناءة لا حد لها وفجور لا مزيد بعده ، فكبح جماح غريزته وردها عما ترغب طوال الأوقات التى كان يخلو فيها معها .. فاذا جاء رجل آخر وفعل ما لم يفعل فلماذا يهتاج حتى يكاد يجن .. ثم ما معنى هذه السخافات كلها ولا شأن له بالمرأة مطلقا .. فلا هو بالزوج ولا الأخ ولا النسيب ..!
وعلاقته بها وإن كانت استمرت سبع سنوات ، إلا أنه مع هذا كله استطاع أن يقطعها إلى الأبد فى جلسة واحدة لم تستغرق أكثر من دقائق سبع – وسره هذا منه – وكان ذلك فى الوقت الذى سمع فيه عرضا بعلاقتها الشائنة مع هذا الرجل ( غريمه ) واستمر بعد هذا شهرا كاملا يتبطل فى مدينة كبيرة من مدن القطر ، وهو فى منتهى ألمه وعذابه ويأسه .. ثم ما عتم أن أدرك أن التبطل والفراغ سبيل كبير لوقوعه تحت سلطان الخواطر السوداء وخضوعه المطلق لفعل الغيرة فى أوقات معينة من النهار على الخصوص كالضحى والظهر مثلا فعزم على أن يزج نفسه فى غمار أى عمل يلقاه فى وجهه ، وكذلك فعل ..
فلما التحق بالعمل الفاه يصرفه عن التفكير إلى حد ما بالنهار ، ولكنه يرده عليه مضاعفا فى الليل ، فاستسلم عند هذا للشراب بشكل مفزع .. على أن ذلك لم يجد الاجداء كله أيضًا ..
فقد كان يقوم فى صباح الليلة التى سكر فيها مصدوعا مكروبا .. وكأنما كانت الخواطر السوداء محبوسة إلى وقت ما وهى مخدرة فلما استفاق وصحا ، استفاقت وصحت هى أيضا ..
والواقع أنه كان .. فى مبدأ الأمر يتصور قطع علاقته بها عمل فى منتهى السهولة فاذا به يراه بعد ذلك بالغا منتهى المشقة .. وانقلبت حالته على ممر الأيام من سيء إلى أسوأ ولم يكن يأسف ساعة فراقها على شيء أسفه على أنه بارحها ولم يركلها بقدمه أو يبصق على وجهها أو حتى يلمح لها بأنها دنيئة منحطة كامرأة .. بل خرج من عندها وفارقها فراق الصديق واضعًا يده فى يدها .. فياللهول ..!! وبعد أسبوع من فراقه لها كان مخبولا تمامًا يهذى ويسب ويشتم لغير سبب ويحتك بالناس ويشتبك معهم فى شجار لغير داع .. فلقد اتجهت طاقته العصبية المرهفة اتجاهها المنتظر .. ووجد أن وجود الخادم معه فى المنزل مدعاة دائما للنزاع على التصرف الغير المعقول فى الطهى فطرده .. وكانت فى ضيافته بعض قرباه الأدنين فحبب لهم السفر إلى الاسكندرية – محتجا بجو القاهرة الخانق – ودفعهم إلى ذلك دفعا حتى أنه رافقهم إلى المحطة فى اليوم التالى ..!
بيد أن ذلك كله لم يغير من حاله .. فرأى أخيرا أن يستعين بالطب .. فتقدم إلى طبيب وهو قليل الثقة بالطب فقال له أن حالتك لم تعد نوعا من الهستريا الخفيفة تزول متى زالت دوافعها وأسبابها ونصح له بالسفر .. فأخذ يعد العدة للرحيل فى اليوم التالى .. دون أن يخبر أحدا من ذويه عن عزمه كما قدمنا .. وكان فى حيازته من المال ما يكفيه فلم ير الاستعانة بأحد من أصدقائه .. وانشغل فى أيام السفر الأولى بالسفر وانصرف عن التفكير فى صاحبته حتى خال نفسه نسيها تماما وابتهج لهذا جدا .. على أنه ما احتواه البحر حتى راح يذكرها ومع ذكراها أشنع الصور الذهنية على الاطلاق .. فلقد تصورها أكثر من مرة فى أحضان ذلك الرجل .. القذر ..!
واستمر حسن يتمشى حتى خفت حدة الخواطر عن نفسه نوعا وكان الجو قد اعتدل وبدت طلائع الأصيل فخرج الركاب من غرفهم وكثروا على طرق السفينة واستراحوا على كراسيها الأمامية .. وجلسوا يتضاحكون ويتندرون وأقبل على القوم شاب ألمانى – يجيد الإنجليزية – وادعى أنه عالم بالكف ..! فأمسك بيد شاب ثم سيدة وسرعان ما تراكم عليه السيدات وتقاصعن وكان حديد النظر ملهم بالفراسة فحسبه أن ينظر إلى عين السيدة ليعرف بعض ما يجول بخاطرها .. على انه كان فى الغالب يتقى الفضيحة فيلقى كلاما مبهما غامضا لا معنى له ولا يعين شيئا على الخصوص ..
ولم تعترض واحدة من السيدات على ذلك بل كن فى الغالب يبتهجن بالكلمات كلما زادت غموضا ويرحن يدرنها فى سوانحهن على ما يشتهين ويأملن حتى جاءت قاصمة الظهر .. وأمسك بيد سيدة كانت ماكرة خبيثة .. وقال لها كلاما كذبته فيه .. فانفضضن من حوله ضاحكات وقد خيب رجاءهن وبدد أحلامهن الذهبية ..
وتقدمت بعد هذا الفتاة الصغيرة إقبال إلى حسن وقالت باسمة :
- هات يدك لأقرأ كفك ..
فأعطاها يده ضاحكا ..
فتفرست فيها مدة ثم قالت :
- ستتزوج فى سن الثلاثين زوجة جميلة .. وسترزق غلاما وبنتا .. وستعمر حتى التسعين .. وأنت الآن مشغول بأشياء ..
وقطع عليها كلامها ضحكة جذلة رنت فى الفضاء فتلفتت الفتاة فألفت نعمات واقفة خلفها ترقبها بامعان وعينيها تترقرق بالدمع من فرط الضحك ، فاستحيت وحولت وجهها ناحية ورفع حسن وجهه إلى نعمات وأمعن فيها البصر وهى تلاقى عينيه بثبات .. ثم قال مشيرًا إلى إقبال :
- إنها ذكية ذلقة اللسان إلى حد مدهش ..
فقالت نعمات بصوت خافت وقد خفضت بصرها :
- أجل ..
ووقفا يتبادلان النظرات وقد اعتراهما الضيق الذى يعترى المرء عادة وهو بحضرة غريب عنه .. ومرت عليهما دقائق وهما فى صمت بليغ مخجل ومربك معا ولا أحد منهما يستطيع براح صاحبه كأنه معلق بالآخر ، حتى قالت نعمات وقد رفعت بصرها إليه فى شيء من الغرابة :
- السيد مصرى ..؟
- أجل ومصرى صميم ..
وافترت نواجذه عن ابتسامة لا معنى لها ووقف يتهيأ لمواصلة الحديث بيد أن لسانه لم يسعفه بشيء فصمت .. وغاظها صمته .. فهمت بأن تبارحه لولا أن اقبال تناولت كتابه الذى بيده وقرأت :
- إخوان كرا... كرا... كر ..
فأتمم لها حسن ما استعصى عليها :
- كرامازوف ..
فسألت نعمات :
- اسم روسى على ما أظن ..؟
أجل .. وهى قصة رائعة لدستوفسكى كبير كتاب الروس ..
- أتقرأ الأدب الروسى ..؟
- دائما ... ولا أقرأ سواه ، فهو أقرب الآداب الإنسانية إلى طبيعتنا وأمسه باحساساتنا ، مع تحليل رائع ووصف دقيق وأنا أميل بطبعى إلى القصص التحليلى العميق ..
فقالت نعمات وقد أحبت أن يتصل الحديث :
- أذاهب إلى روسيا إذاً ..؟ أم إلى رومانيا ..؟
فأجاب حسن باسما :
- لا أعرف بالضبط ..
فسألت مستغربة وعلى شفتيها ابتسامة فاتنة :
- ألا تعرف وجهتك ..!
- أبداً، ولم أكن أقدر وصول الباخرة إلى ...
- ما الذى كنت تقدره إذاً ..؟
- أن تضل الطريق أو يأخذها الطوفان أو يتلقفها اليم ..
وأشار إلى مقعد وراءهما وقال متوخيا الأدب الجم :
- تفضلى بالجلوس ..
فجلست وهى تقول لنفسها ( لقد حقق ظنى فيه منذ رأيته فهو رجل غريب الأطوار حقاً )
وجلس على قيد ذراع منها وكانت الفتاة قد بارحتهما وانطلقت تلهو مع الصبية ، واعترى حسن أول الأمر التقبض الذى يلازم المرء مع كل جليس لم يألفه ثم ما لبث أن أقبلت عليه بوجهها والتذت بحديثه فتفتحت نفسه وفاضت روحه على لسانه فانطلق يتحدث معها حتى حان موعد العشاء ، فودعته بحرارة وعينها تقول له سنلتقى ونتحدث ..
وتعشى ثم خرج يذرع طرق السفينة بخطوات بطيئة فلقيها فى بعض غدواته وروحاته ، وكانت قد غيرت ثوبها وازينت أكثر من اللازم – كما تصور – وكل ما فيها جميل حلو حتى مسحة الحزن الخفيفة التى لا تبارح وجهها مطلقا ..
وقالت لما واجهته :
- الظاهر أنك شاعر ..
ورنت إليه بعينيها النجلاوين فأبعد وجهه عن ملاقاتهما .. وقال باسما :
- معاذ الله أن أكون من هؤلاء الحمقى الفارغى الرؤس .. ولكن لماذا ..؟
- لأنى أراك دائما تطيل النظر الى البحر ..
- ذلك لأنى معجب دائما بكل ما هو مخوف رائع ..
ونصب قامته ومضى وهى فى رفقته .. وقالت بعد برهة :
- ألا تحب الجلوس فى الصالون بعد العشاء ..؟
- لا ..
- ولا الذهاب الى قاعة الرقص ..؟
- هذه سخافات صبيانية ..
- ولا الاستماع إلى الآنسة الجميلة التى تعزف على البيان بعد العشاء ..؟
- أن أناملها الجميلة تصلح لكل شيء إلا العزف ..!
- ولا حتى استماع الراديو ..؟ فالليلة أوبرا لفاجنر ..!
- فاجنر يدير رأسى .. ولا أحب إلا الموسيقى البوهيمية ولكنها مع الأسف تبدأ فى وقت يكثر فيه الجلاس فى الصالون ..
- ألا تحب الناس ..؟
- انهم يأخذون بمخنقى دائما ..
- ما الذى تحبه اذا ..؟
وقد ظهر عليها الغيظ ..
- اتمشى .. واتمشى حتى تغرق السفينة ..
فرنت إليه باسمة وقالت :
- يا أخى اذا كنت عاوز تموت موت لوحدك ليه تموت الناس معاك ..
وسحرته عاميتها فرشقها بنظرة ذات معنى وقال :
- من الخير ان نموت جميعا ..
- لماذا ..؟
وخفتت صوتها جدا ..
- ليأتى جيل جديد سليم معافى يصلح للحياة وتصلح له .. أما نحن فمرضى وخير للمريض أن يريح نفسه ..
- ولكن هناك من لا يودون الموت فلماذا تميتهم يا سيد أ ، أ ..؟
فأكمل محنيا رأسه :
- حسن ..
وكانت تود أن تردف إنك لسخيف عجيب الاطوار يا سيد حسن .. على انها لم تستطع هذا ..
وأجاب على كلامها ..
- من الخير أن يموتوا ولا يبقى فى الحياة إلا النساء الجميلات ذوات العيون السود والأهداب الوطف ، ثم الأطفال الصغار فما ذنب هؤلاء ..؟ أما الرجال فلا تبقى منهم باقية ..
فغضت بصرها خجلا وقالت فى نفسها " بدأ يتوقح " وإن كانت سرتها وقاحته جدا ..
وبصر بمقعد مريح فجلسا عليه ..
ولذ لها أن تجلس مع هذا الرجل فى سكون الليل .. فلقد كانت تحن إلى الانفراد به حنينا لا يصور .. وكانت تود لو تمضى وقتها جالسة صامتة لا تقول شيئا ، وإنما ترقب وجهه المنطلق أبدا .. على الرغم من سخرية لسانه ولذع تهكماته ، وتنظر إلى عينيه السوداوين العميقتى الغور اللتان لا ينظر المرء إليهما إلا ويدرك لأول وهلة السر المهول المختبئ فى أعماقهما .. ثم تملأ عينيها من جسمه القوى وتراه وهو يحرك ذراعه المفتول فى هدوء ويلوح بيده العارية الاشاجع فى رقة إذا ما عين شيئا أو خصصه ، وتستمع إلى صوته الهادئ المتزن فى خشونة محببة تشعر المرأة أنها فى حضرة رجل كامل الرجولة من نواحيه جميعا ..
كانت نعمات تشعر كلما التقت بهذا الرجل فى السفينة ، بقوة جارفة تدفعها نحوه وتحس فى أعماق قلبها بالحنين البالغ إليه .. والشوق المبرح إلى ملاقاته ..
وها هو الآن جالس جوارها وجسمه الفائض بحرارة الشباب على قيد فترين منها ..
وطفقا يتحدثان مدة طويلة .. واعترته أكثر من مرة فى خلال ذلك سهوم وفكر فكان يصمت صمتا بليغا تسأل فى خلاله نفسها وقلبها راجف " ما الذى يفكر فيه ..؟ ما الذى يفكر فيه رجل كهذا ..؟ امرأة ..؟ أى امرأة ..؟ من هذه المرأة التى تستحوذ على قلب هذا الرجل ..؟ " واستغرقت فى خواطرها ، حتى استفاقت على صوته وهو يقول
- خير لنا أن ننام فقد اشتد البرد ..
فقامت متثاقلة ومشت إلى غرفتها وقلبها شديد الخفقان ..
***
( 5 )
طلعت الشمس فى صباح اليوم الثانى والسماء صافية الأديم .. فاتنة الزرقة رائعة البهاء .. والهواء رقراق عليل فجاء اليوم مشمسًا جميلا .. ينعش النفس ويسر السرائر ..
وكان حسن واقفا جنب غرفة الربان على ظهر السفينة وعينه إلى الأشعة الراقصة وقد فضضت غوارب الموج ، وأرسلت ألسنة بيضاء مذعورة تهيم على وجهها فى اليم ..
واستمر فى مكانه أكثر من ساعة حتى غمرت الشمس بنورها وحرارتها كل شيء فى الوجود .. فجاءت نعمات .. تستدفئ معرضة جسمها البض للاشعة .. جاءت تمشى على استحياء .. حتى وصلت إلى مقدمة السفينة واستراحت هناك .. متقية أعين الناس ..
وكانت فى غلالة بيضاء .. رقيقة جدا .. أبرزت مفاتن جسمها كله .. وجلست ثانية ركبتيها .. معرضة ساقها العارى لشعاع الشمس .. ورآها حسن ولم تره .. فعلق بصره بها لا يتحول عنها إلى شيء مما حوله .. وبقيت هكذا مدة وساقها العاجى يستقبل حرارة الشمس ولا يحس بها .. حتى داعب الهواء شعرها فأرسله على جبينها .. فدفعته بيدها برفق ووقفت تستقبل التيار الهوائى وهى جذلة .. مرحة .. حتى اشتد الهواء وانقلب ريحا .. ليست بالرخاء .. فحسر غلالتها عن صدرها المرمرى .. وغلى دم حسن لمرآة وحميت رجولته ولكنها خففت من وطأة الأمر على نفسه فضمت الغلالة على صدرها وغطت نهديها .. آه من الريح .. وظهر على وجهها بعض الاستياء وهى تدفع شعرها إلى الوراء ..
شد ما أنت حمقاء أيتها الريح عندما لا تدعين نعمات هانم تستدفئ بحرارة الشمس .. نعمات هانم فى حاجة شديدة لحرارة الشمس .. ولكنك ورهاء أيتها الريح ..!
اشتدت الريح عن ذى قبل حتى عوت .. وهاجت .. فطيرت غلالة نعمات عن جسمها .. فأضحت كالعارية ..
لم يعد حسن يبصر شيئا .. فقد غشيه مثل الضباب .. لقد طفر الدم حتى إلى عينيه .. فغام انسانها .. ووقف تميد به الرغبة الرعناء .. أى جسم ..!
آه الريح الحمقاء ..! وضمت ثوبها إليها واستدارت ورفعت بصرها فرأت حسن :
- أوه .. أنت هنا ..!
وكان صوتها يرتعش ..
وضمت غلالتها على جسمها وأسرعت وانزوت فى ركن السفينة .. ووقفت برهة تلهث ثم قالت :
- سأجيء إليك بعد لحظة ..
- لا بل أنا الذى سأجيء إليك ..
قال هذا وصوته ينم عن حاله ..
- لا .. الريح هنا شديدة سأطلع إليك بعد أن أغير ثوبى ..
على أنه ما كان يود ذلك .. انه يودها فى هذا الرداء الخفيف .. وجرت إلى غرفتها وعادت بعد دقائق وعلى شفتيها ابتسامة حلوة وابتدرته قائلة :
- كيف حالك ..؟
- أشكرك عال جدا ..
- أما زلت تتمنى غرق السفينة ..؟
- أجل .. ولكن بعد أن نصل الآستانة .. وفم البحر الأسود أوسع جدا من فم البحر الأبيض كما يخيل لى ..!
- ولماذا بعد الآستانة ..؟
- بعد أن تبارحيها سيادتك ..
- ولكن سيادتى ..! غيرت فكرها وستواصل سيرها ..
- اذاً فباسم الله مجريها ومرساها إلى الأبد ..
فاستضحكت ورنت ضحكتها الفضية النبرات فى الفضاء ..
وقالت بعد فترة صمت :
- ما الذى سنراه فى أثينا غدا ..؟
- أطلال وأحجار وميادين وشوارع وقصور ومنازل ورجال كالقرود ونساء ..
( ورد لسانه إلى حلقه بسرعة فليس من اللياقة أن يسب النساء فى حضرة امرأة )
فسألت بخبث :
- نساء كماذا ..؟ لابد من التشبيه ..
- ليس من الضرورى هذا الآن ..
- لا .. لابد من التشبيه لتستوى الجملة ..
فقال محاولا أن يخفت صوته والخبث باد على عينيه :
- كالحور العين ..
فسألت مستغربة :
- فى أثينا ..؟
- لا .. فى السفينة ..!
فتطلق وجهها لحظة ولكنها عادت وتكلفت الجد وأظهرت الجهل بتعريضه وهى تقول فى نفسها ( عاد يتوقح مرة أخرى ) ثم قالت :
- وهذا كل ما فى أثينا ..؟
- أجل ..
- وماذا عن الاكروبول وغيره من روائع الآثار الاغريقية ..؟
- هذه كلها ترهات .. أحجار خرساء لا حس لها ولا شعور ..
- ما رأيك فى وصف بيرون ..؟
- لم يكن بيرون يتغنى بهذه الأحجار الصماء .. وإنما كان يتغنى بليلاه دائما ..
وحدق فيها وبقى هكذا مدة ..
فغضت رأسها مبتسمة وحولت رأسها عنه فقد أصبحت لا تستطيع أن تصمد أمام عينيه السوداوين وقد غشيهما بريق غريب أخاذ .. وراءه ما وراءه من الزهو والشموخ والتعالى والاحساس التام بالرجولة .. والثقة الوطيدة بالنفس .. وكانت شفته السفلى متقلصة قليلا فأضحت أقوى دلالة على السخرية المرة التى تركبه دائما ..
وقضيا سحابة اليوم سويا فلما أقبل المساء انطلقا عند المقدمة رائحين غاديين .. وكان تيار الهواء مع شدته فى هذا الجزء من السفينة ممتعا ينعش النفس ويفتح الصدر ..
ورأى حسن أن الركن الأمامى المحدب هو خير مكان للجلوس فى مثل هذه الريح .. لأنه يكون ما يشبه العريشة .. فوقف عنده يتردد لخلوه من المقاعد ثم قال .. وقد شاقه المكان جدا :
- الأحسن أن نجلس هنا ..
- هنا ..! على الأرض ..؟
- أجل ..
ولم يكن فى وسعها أن تقول لا .. فجلست .. وجلس بجوارها .. كان لابد لها أن تمد رجليها وهى جالسة على الأرض .. لتستريح .. فبصر بجوربها الوردى على سيقانها العبلى .. فود لو طاوعه الوقت ليمتع عينيه ببعض الفتنة .. وأسندا ظهريهما على الحاجز الحديدى ولم يؤلمهما الحديد لأمر ما .. ولا أحد حولهما من الركاب فلقد كانوا جالسين على المقاعد الجانبية بعيدا عنهما والكل مشتغل بنفسه عن غيره ..
وتمدد حسن واعتمد بمرفقه على الأرض وأراح رأسه على كفه ومال على جنبه .. وأقبل عليها بوجهه يتحدث ..
وزحف العشى .. وخيم الظلام .. وانطلق النور .. من غرفة الربان الزجاجية الصغيرة .. وارتمى الشعاع على البحر .. ولمعت السفينة كلها وتألفت مصابيحها .. فغاظه النور وآلمه وإن كان مجلسه فى ركن قاتم .. بيد أنه كان يود الظلام أكثف جلدا وأسمك أهابا .. واشتد الظلام وهو لم يغير مجلسه وأصبح وجهها فى سواد ما حوله .. نور يتألق .. وزاد لمعان عينيها وشع منهما بريق أخاذ ..
ونسيا ما حولهما وانصرفا إلى حديث طلى .. ثم استغرقا .. فى صمت طويل .. لا همس فيه .. ولا حركة .. اللهم إلا دقات قلبيهما المتجاوبة .. فود لو ضمها إلى صدره فى هذه الوحدة اللذيذة وفى غمرة هذا الظلام الكثيف .. ولكنه لم يجرأ على هذا .. وودت لو تلمس بجسمها ذراعه أو تعتمد على كتفه أو تستريح برأسها على صدره .. ولكنها لم تجرأ على هذا أيضاً ..
وانقلب صوته متهدجا .. ونفسه عاليا .. وشعر بالدم الفوار يتدفق .. فى شرايينه وعضلاته تتصلب .. وجسمه يهتز .. وأضحت لا ترى لشدة الظلام المخيم ما طرأ على وجهه من تغيير واضطرام .. وإن كانت أحست بصوته يتهدج ..
وقال بصوت يرتعش :
- هيا بنا لنستريح ..
فقامت متثاقلة آسفة ..
***
( 6 )
لاحت مدينة بيريه .. قبل مطلع الشمس .. راقدة فى حضن الكرى .. وعليها ضباب خفيف خيم على منازلها .. وغشى سفنها الراسية فى الميناء .. ولما قربت منها السفينة بدأت تنفض عنها غبار الكرى وتشيع فى أرجائها الحياة ولكن بثقل وجهد .. فتحركت المركبات والعجلات وأقبل الناس وأدبروا فى شوارعها الضيقة .. وتقدم المستقبلون على رصيف الميناء يلوحون بالمناديل البيضاء ويهتفون بالأسماء ..
وكان حسن معتمدا بظهره على حاجز السفينة الخلفى وأمامه نعمات وقد أعطى للمدينة ظهره لأنه لم يكن يتصورها بمثل هذه الكآبة .. حتى رأى أن الأوفق له أن يبقى على ظهر السفينة ولا يهبط المدينة ويضيع وقته سدى .. لولا أن نعمات كانت تود من كل قلبها زيارة أثينا .. لأنه على الرغم من مرورها أكثر من مرة على اليونان .. فإنها لم تزر أثينا مطلقا .. وسرها أن يكون حسن معها ليشرح لها ما استغلق عليها ويرد كل أثر إلى صاحبه وكل شئ إلى منبعه فلقد كان اطلاعه واسعا على الرغم من تهكمه اللاذع بكل ما يقع تحت بصره ..
فبارحا السفينة فى الساعة الثامنة صباحا وركبا عربة أقلتهما إلى محطة القطار الكهربائى الذاهب إلى أثينا ..
وتحرك المترو يقطع بهما الأراضى الرملية التى نبتت عليها الخضر والأعشاب الصغيرة ..
فقالت مشيرة إلى الحقول :
- يذكرنى هذا بالريف عندنا ..
- لا .. لا .. الأرض هناك أخصب وأثمر .. ولكن الفلاح هنا أسعد وأهنأ .. يشعر وهو يتنفس أن أنفاسه خالصة .. والأرض هنا لا تأكل الفلاح وتلصقه بالرغام كما تعمل أرض النيل السعيد ..! والفلاح المصري دائما يحنى ظهره ويعمل فى الأرض حتى أكلته الأرض .. ولا أحد يفكر فيه مطلقا ..
أنظرى إلى منازل هؤلاء الفلاحين اليونانيين .. والأرض جدب والتربة قاحلة .. منازل صغيرة ولكنها أنيقة ولبعضها بساتين وحدائق ..! أنظرى إلى هذا الفلاح وهو يضرب الأرض بفأسه .. ترى على وجهه رغد العيش ووفرة العافية ..
ثم أذكرى بعد ذلك منزل الفلاح المصرى فى القرية الوضيعة .. اذكرى الأكواخ الحقيرة القذرة الى تمرع فيها الحشرات وتسرح فيها الدواب .. واذكرى الفلاح وعلى وجهه الأسى والضنى والجهد الشديد ودلائل التعاسة المرة .. إنه أتعس المخلوقات البشرية منذ القدم ..
من عهد الفراعنة وهو يجلد بالسياط ليبنى مقبرة لخوفو ولحدا لخفرع وضريحا لمنقرع ..! من عهد الفراعنة وهو يجلد بالسياط ويغل بالحديد .. من عهد الفراعنة وهو مستعبد ذليل قانع صابر .. ولم يتنفس الصعداء ويشعر بالحرية الحقة إلا وقت أن أشرق نور محمد على الكون .. ورفرف علم الإسلام على الوادى ..
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ..
هذا هو التشريع الإسلامى يردده أمير المؤمنين عمر خليفة سيد الخلق محمد ..
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ..
ليس بعد هذا حرية ..
على أن الحرية الصحيحة لم تدم طويلا فقد تغير كل شيء وتبدل بالتدريج وعادت السياط تحط على الظهور فى عهد الترك ..
ونظر إليها باسما .. وقال :
- كان ولاة الترك – أجدادك – قساة جدا على الفلاح المصرى فشد ما مزقوا جسمه بالسياط ..
فرنت إليه وهى باسمة مدة ثم أطرقت .. ولم تكن تود أن يتحدث كثيرا فقد كانا جالسين على مقعد واحد وكتفه ملاصق كتفها فسرت فى عودها اللين حرارة شبابه سريان الكهرباء فى أسلاكها .. وبدت على ملامح وجهها الفاتن آثار الألم واللذة معا .. وكان يود هو لو يدفع يده حول خصرها ويضمها إليه .. ولا حساب عنده للمكان والركاب ..
وكانت مرتدية جلبابا أبيض .. شد على جسمها فابرز مفاتنه .. وحول خصرها نطاق أحمر .. يكاد معه الخصر ينقصف .. وعلى رأسها قبعة صغيرة زرقاء مالت على الجبين .. واستراحت على الشعر الأسود الناعم .. الذى أخذ منه المقص بمقدار .. فبان الجيد الاتلع .. وظهر العنق اللين .. وأطلت العيون السود النجل .. يجول فيها البريق الفائض بسحر الأنوثة من بين الأهداب الوطف .. وفاض الخد الأسيل بالحمرة الخفيفة التى .. كان لهواء البحر وشمس الصيف أثر فيها .. على أن الشفة .. وإن كانت مكتزة باللحم بيد انه كان يعوزها جريان الدم لتحمر .. ووفرة العافية لتلمع .. فشحبت لهذا قليلا .. والثوب الذى تدلى على الساقين .. انحسر عن الذراعين .. فبانا .. فى بياض العاج ونعومة الحرير .. وقد ارتفقت بذراع على مسند المقعد والقت الآخر على جسمها ..
فمن ذا الذى يرى هذا الجمال وهذا الحسن ولا يشتهيه ..؟
وجلس صامتا يبادلها البسمات والعيون تتكلم .. مضطجعا على المقعد وملقيا يده الى جنبه مما يلى فخذه الأيمن .. فلامست يده يدها عن غير قصد .. فأحس بلذة غريبة تسرى فى أليافه فالصقها بيدها وهو لا يعى .. وقد سكنت الجوارح وزادت دفعات القلب .. وضغط على يدها فى عنف ..
فنظرت اليه باسمة ..
***
وزارا فى أثينا ما يساعدهما الوقت على زيارته حتى الظهيرة فمالا إلى مطعم وتغديا ثم خرجا إلى بعض الأندية الهادئة ليستريحا ويستأنفا الزيارة فى الأصيل ..
وجلسا فى ركن منعزل .. وأخذ يستعرض بعض الصور التى ابتاعتها حتى أحس بحركة عند قدميه .. فخفض بصره فألفى ماسح أحذية فى حلة رمادية ممزقة ينقر بفرشته على صندوقه فأوما له بالرفض .. فأخذ يلح باليونانية ..! فابتسم حسن وتحول بوجهه إلى نعمات و بادلها بعض الكلمات .. فقال الرجل بانجيزية مهلهلة ..
- أتمسح با سيدى ..؟
- لا .. أشكرك ..
- حذاءك قذر يا سيدى ..
- ولكنى راض عنه يا سيدى ..!!
- مسحتى .. تستمر شهرا يا سيدى ..
- ولكنى لن أمسح .. ليس عندى وقت ..
- فى دقيقة واحدة يا سيدى ..
فغاظته " يا سيدى " هذه ورمق ماسح الأحذية بعين محنقة .. وكان شابا فى مقتبل عمره وميعة صباه ..
وقال بصوت حاد :
- كيف تقبل على نفسك فى مثل سنك وشبابك أن تمسح حذاء لرجل مثلك ..؟
فرفع الشاب اليه بصره متحيرا وكأنه يقول لنفسه " أى رجل ..؟ " ثم أجاب :
- أود أن أعيش يا سيدى ..
فقال حسن وهو يتميز غيظا :
- تستطيع العيش بأى عمل آخر ولكن حرفة كهذه معرة تنافى الرجولة .. ليس من الرجولة فى شيء أن تركع أمام رجل مثلك لتمسح حذاءه .. هذا كثير جدا على رجل .. يستطيع كل امرئ اذا لم توجد أن يمسح حذاءه بنفسه .. إن وجودك حطة للرجولة كلها فى هذا الزمن .. كيف تقبل على نفسك ..؟
فجذبته نعمات من كتفه وقالت ضاحكة :
- ما هذا كله ..؟ أتريد أن تقف خطيبا فى اليونان ..؟ إن الرجل لا يفهم مما تقول حرفا ..
فأجابها فى غيظ وكان قد بارحهما الرجل :
- أنهم لا يفهمون هو وأمثاله دائما .. أنهم لا يفهمون ولا يحسون ولا يشعرون مطلقا .. أبدا تدور عليهم رحى الزمن ولكنهم مع هذا لا يحسون مطلقا .. هذه واحدة من حسنات المدنية ..! هذه إحدى فضائل الحضارة ..! رجل يركع فى ريعان شبابه أمام رجل آخر ليمسح له حذاءه ويزيل بيديه وحل الشارع وقاذوراته .. هذا هو الاستعباد بعينه هذا هو الرق الأبدى فى عهد الحرية والمساواة و الإخاء ..!
فقاطعته قائلة :
- لماذا تثرثر مع هذا النفر من الناس دائما ..؟
بعد أن رأته يكثر الحديث مع الطبقات الدنيا من الشعب من إدلاء وتراجمة وبائعى صور وحوذية ..
فأجابها :
- لأنه هو النوع الراقى المثقف الذكى جدا فى كل أمة ..
فآلت على نفسها ألا تسأله بعد ذلك عن شيء فليس عندها أعصاب لاحتمال هذا كله ..!
***
(7)
وانطلقا إلى السفينة فى الهزيع الأول من الليل فبلغاها قبل أن ينتصف الليل .. وقد خلت من معظم السفر الذين يفضلون المبيت عادة فى المدن التى يرسون عليها لتكون المتعة أتم وأكمل
وقالت :
- سأغير ثوبى وأعود إليك فلم يطف بعينى الكرى بعد ..
وانطلق يقبل ويدبر فى الطرقات حتى وافته ، وقد أبدلت ثوبها الأبيض بآخر داكن وازينت كذلك وأبرزت أنوثتها كلها .. ولما كانا تعبين من طول تجوالهما فى المدينة فقد استراحا على مقعد منعزل .. وعلى مدى بعيد منهما – فى مؤخر السفينة – بعض الضباط واقفين امام غرفة ( التلغراف اللاسلكى ) يتحدثون ويتضاحكون ..
ومد حسن عينه إلى البحر وقال :
- وددت لو القت هذه السفينة مرساها على مدى فراسخ من بيريه .. وهذه الظلمة الطاخية ضاربة برواقها ..
فسألت فى صوت موسيقى النبرات :
- ومعك السفر ..؟
- لا .. لا أحد فيها غيرى ..
- لا أحد فيها غيرك ..؟
- أجل ..
فامتقع لونها ..
وأردف حسن :
- أحب أن أرمى بعينى إلى الليل فى قلب البحر والظلمة مخيمة والسكون شامل وألقى السمع للموج المصفق والرياح العاوية .. ثم انطلق بعدها أفكر ..
- تفكر فى ماذا ..؟
- فى الشرق الحالم الراقد المستسلم لجبروت الغرب وظلمه وعدوانه .. يرى بعينيه الليث الكاسر يتوثب عليه ليبتلعه .. وهو مع هذا راقد حالم خاضع ذليل .. كأنه لا يبصر .. ولا يرى .. ولا يدرك .. ولا يحس ..
ثم غير من لهجته :
- فى المخلوقات الحبيبة التى التقيت بها عرضًا فنزلت فى السواد من حبة القلب ونالت زيادة المستزيد .. وبعد هذا لوعة الفراق وشجن الذكرى ..
- شجن الذكرى ..؟
- أجل ..
- لماذا ..؟ الذكريات دائما حلوة ..
فخفت صوته وقال :
- لا .. لا .. ما أمر الذكريات وأن كانت لأسعد أوقات العمر وأمتع أيام الحياة . ما الذى تعمله الذاكرة .. صور مريضة باهتة كالطيف السانح للحالم فى جوف الليل .. فاذا فتح عينيه على الحقيقة فى الصباح .. ومد يديه .. استحوذ على الفضاء وضم الهواء ..
وحول وجهه ناحيتها ثم استأنف :
- لا شيء أمتع من النظر إلى عينين نجلاوين فى الظلام ..
فغمغمت :
- عينين نجلاوين فى الظلام ..
- أجل .. وساحرتين باسمتين أبدا .. تفيضان بالحنان .. الحنان الأخوى المحض حتى على مخلوق غريب لا يستحق العطف ..
فقالت وقد شاع فى كيانها السرور والزهو :
- مخلوق غريب لا يستحق العطف ..! أنت عندى ...
وصمتت مدة مطرقة .. ثم رفعت وجهها إلى وجهه .. فتابع حديثه وكأنه لم يسمعها :
- العيون الناعسة التى تغمرك بفيض من العطف وفى الوقت نفسه ترميك بنظرات جانبية تختلج فيها الهدب خلجات يقول لك انسان العين بعدها حاذر ..
- حاذر من ماذا ..؟
- من السهم المريش النافذ إلى لب القلب ..
- إنك تحتاج إلى شاعرة ملهمة لتحادثك لا إلى امرأة جاهلة مثلى ..
- أنت الجاهلة ..؟
- أجل .. ولولا أن أمى ألحقتنى ببعض مدارس الآستانة لشق علىّ كتابة اسمى ..
- وما الذى تريدينه من التعليم ..؟
- ما يريده الرجل ..
- كرسى فى الجامعة ..؟
- ولم لا ..؟
- أأنت عضو فى الاتحاد النسائى ..؟
- لا ..
مع غضب باد .. وهى تقول لنفسها ( بدأ يهزأ بى أنا أيضا ) ..
ثم سألها بعد مدة :
- ما الذى يوده الرجل من المرأة ..
فأجابت وهى لا تزال غضبى :
- لا أعرف ..
فقال متجاهلا غضبها :
- قلبها وجسمها لا أكثر من هذا ولا أقل .. لا عقلها الناضج ولا ذهنها الثاقب .. فالمرأة التى تفكر بعقلها قبل جسمها لم تخلق بعد ..
فامتقع لونها وعدت هذا إهانة وأطرقت ووجمت ..
وخيم صمت طويل .. فرفع طرفه إليها وقال :
- دعينى استقبل الفجر الطالع ..
- أين الفجر الطالع ..؟
- هنا ... يطلع علىّ النور دائما من هاتين العينين .. هنا ..
وأشار إلى عينيها .. فغضت رأسها ..
وحرك يده حتى لامست يدها وشد عليها بعنف .. فمدت عنقها نحوه واستمرت عيناهما متلاقيتين ولا كلام ولا همس اللهم إلا الزفير المتعالى والانفعال الغالب والعين التى تخاطب العين ..
وقال فى صوت راعش ويده تضغط على يدها
- أنت الآن كل شيء عندى .. حياتى وسعادتى وكل شيء عندى .. واسأل نفسى عن مصيرى لو لم ألقاك .. مصير الرجل الذى اسود فى عينه وجه الحياة النضر لأحلام صبيانية مضت ولن تعود ..
لقد فتحت عينى على دنيا أخرى .. أنت الآن كل شيء عندى ..
- وبعد الآن ..؟
- وبعد الآن .. وفى الغد .. وحتى الموت ..
ومد يده إلى ذراعها .. فلامسه لهب كاو .. وطوق بذراعه خصرها .. وجذبها إليه .. فاستراحت إلى صدره .. وهم أن يقبلها بيد أنه بصر ببعض ضباط السفينة عن بعد فتراجع ولكن دمه ازداد تدفقًا فى شرايينه .. والتهب جسمه .. إنه يشتهى أن يضمها إلى صدره ويطوق بذراعيه القوية عودها اللين ..
وقال بصوت متهدج :
- هيا بنا إلى الأمام ..
فقامت ويده ملتفة على ذراعها فشعر بلذة غريبة تسرى فى أليافه .. ولما احتواهما الظلام ولفهما فى طياته ارتفقا على الحاجز ووقفا صامتين يحدقان فى البحر .. ويده على يدها ضاغطة .. واستمرا على ذلك مدة طويلة حتى أحس من رعشة يدها .. هزة عودها اللين .. فأمسك بكلتا يديها فسكنت نأمتها تماما .. وظل وجهه معلقا بوجهها مدة .. وقد تكسر الجفن .. وارتجفت الشفة .. وزاد ضغط الدم على الصدر فأرفض ينبض .. واشتد الزفير على الفم فوضح النفس .. واتسعت الخياشم .. فجذبها نحوه وطوقها بذراعيه .. وضمها إلى صدره .. وشد على عودها الغض .. وأهوى بفمه الملتهب على فمها .. وضغط .. فاستراحت بجسمها كله على جسمه .. وترنح كل شيء حولهما وهوى نجم من السماء ولفهما ظلام كثيف ..
ثم رجعت إلى نفسها تدريجياً فألفت نفسها بين ذراعيه وهو لا يزال يلهث كالحيوان المضروب وعينه متقدة وسحنته منقبضة .. فرفعت طرفها الضارع إليه .. وبقيت مدة ترشقه بنظراتها المنكسرة وهو واقف أمامها بقامته الفارعة وجسمه القوى الملتهب .. وكان قد توقف عن تقبيلها وأخذ يمر بيده على كتفها وهو مجنون ثائر ..
فمال عنقها إلى الوراء وقالت بصوت مبحوح :
- لا .. لا ..
على أنه لم يعر باله إليها .. فعادت تستعطفه .. فأحس فجأة ببرودة الثلج فى عموده الفقرى وسكن فيه كل شيء وهجع فأفلتها ..
ودار بعينه فى الدنيا وهو شارد ساهم ثم جلس على الأرض فجلست .. ولا شيء حولهما غير صوت انفاسهما المتجاوبة .. وأسند ظهره على الحديد البارد فلم يحس ببرودته .. ومد عينه فى الظلام المخيم إلى عينيها والبحر يرمى الشاطئ بموجه ويطاير رشاشه الأبيض فى الليل الحالك ..
واشتدت الرياح وكان الليل قد انتصف وعلى مدى أذرع منهما بعض الركاب يغطون فى النوم مستمتعين بالهواء الطلق .. ورقب نجما كبيرا يتألق فى الأفق .. فود لو يهوى وتنقلب الدنيا كجلد الغراب الأسود .. فلا نور .. ولا بصيص من نور .. وتمدد بجوارها فوضعت يدها على شعره ومالت برأسها على وجهه وحدقت فيه وهى تقول لنفسها ( ما أجمل عينيه فى الظلام ) ..
وبقيا جالسين هكذا مدة حتى قال فجأة بصوت خشن :
- لنمشى ..
فقاما معا ..
وطفقا يذرعان الطرق الصغيرة صامتين ورأسه مفعم بخاطر واحد تملكه واستحوذ على كيانه كله .. ولم يكن فى وسعها أن تقول له شيئا بعد أن رأته .. مربد الوجه .. متغير السحنة .. فرافقته صامتة وقد أخذت تدرك بغريزتها النسوية ما يدور بخاطره .. ولما مر على بعض الدرجات الهابطة إلى الطابق الثانى انحدر إليه فهبطت وراءه صامتة ملتاعة واجتاز الدهليز الكبير ثم هبطا درجين صغيرين وانخرطا فى ممر ضيق فرشت أرضه بالمشمع الاحمر اللامع .. وهى واجمة لا تسأله عن وجهته .. وكيف تجرأ على هذا ..؟
وانعطفا إلى ممر صغير يتوسطه نور خافت وأحس بوقع أقدامه على الخشب كأنها المطارق تعمل فى الحديد فجفل .. على أنه تقدم حتى وقف على باب غرفته فاخرج المفتاح من جيبه ويده تضطرب .. وقال لها بصوت راجف :
- غرفتى ..
ثم بعد أن فتح الباب ..
- تفضلى ..
فدخلت صامتة وجلست على كرسى امام نضد صغير ووضعت رأسها على يدها .. ورد الباب وراءه بعنف ..
***
وفتحت نعمات عينيها قبل الفجر والسكون شامل والظلمة مخيمة فلم تدهش لوجودها فى غرفة حسن ودارت ببصرها برهة فى الغرفة ثم ألقت يدها برفق على جبينه .. وضعت يدها بخفة ولين .. أنها لا تحب أن يستيقظ .. أنها تحبه مستغرقا فى نومه هكذا متحولا عن دنيا الصحو إلى دنيا النوم الهادئ والأحلام اللذيذة .. لتدعه يحلم .. يحلم .. يا ترى بمن يحلم الساعة ..؟ بها .. بغيرها .. هذا لا يهم انه معها الآن وكفى .. وضعت يدها بخفة على رأسه .. ومرت بها على شعره الفاحم وهو مستغرق فى نومه غائب عنها فى أحلامه .. فاشتد وجيف قلبها وشعرت بالتوقان إليه .. أنها تتمنى أن تضع شفتها على شفته .. وتضمه إلى صدرها .. وتتسلل بعد ذلك هاربة .. أنها ترغب فى فعل هذا ولكنها لا تود أن يستيقظ أنها لا تحب أن تخرجه من دنيا أحلامه .. أنها مستريحة لا ترغب فى أكثر من أن تضع يدها على قلبه .. وكانت ضربات قلبه هادئة وسنانة .. أواه .. حتى قلبه .. منبع كل شيء فيه نائم نشوان على ما يظهر .. لابد أن تبارحه الآن ، لابد أن تبارحه الآن .. ولكن بعد أن تلمس شفتيه على الأقل .. الرجل الذى نضر أزهارها وجعلها تشعر لأول مرة فى حياتها أنها امرأة ..
ولامست شفتها شفته وعلى وجهها أنفاسه اللينة تروح ..
وأخذت ترتدى ملابسها على عجل مخافة أن يطلع النور .. ولما فرغت من ذلك خرجت فى رفق وأغلقت الباب وراءها بحذر .. ثم تقدمت متمهلة فى سيرها تتوجس خشية أن يكون بعض الضباط فى الطرقات .. ولما لم تبصر أحدا مشت حابسة خطواتها حتى أشرفت على الدهليز فجازته إلى الممر وطلعت إلى الطريق الجانبى الواسع فاستقبلها هواء الصباح اللين .. وتركت شعرها منفوشا يلعب به الهواء ورمت عينيها إلى البحر وهو يتمطى فى ثقل الوسنان ..
***
جلس حسن فى البهو يشرب القهوة فى الصباح الباكر وهو مستريح الأعصاب فائض البشر ناعم البال .. ووافته نعمات بعد قليل وهى مرحة طروب ضاحكة العينين حمراء الشفة متألقة الوجه بادية الأيناس فكل شيء فيها تغير حتى صوتها وهى تقول :
- لقد بكرت فى البكور ..
- أجل .. تفضلى ..
وأشار إلى كرسى على يمناه فجلست ترميه بنظرة يعجز لسانها عن الإفضاء بمدلولها فى مثل هذا الموقف .. وأدرك بفطرته وقوة ملاحظته ما تعنيه .. وقال وقد مد عنقه :
- ألا تشربين قليلا من القهوة ..؟
- أشكرك .. أنا لا أشرب القهوة مطلقا ..
وخفتت صوتها وهى تردف :
- فهى تؤذى أعصابى .. وأنا دائما مريضة الأعصاب كثيرة الأرق ..
- دائما مريضة الأعصاب ..؟
- أجل ..
واختنق صوتها تماما .. وأشفق عليها فصمت وقد أدرك ما دار بخلدها ..
وكانت تود أن تضيف " نمت البارحة نوما عميقا " بيد أنها لزمت الصمت ..
وهتف بالغلام فجاء لها بكاكاو ولبن ..
فأخذت تترشفه وعينيه إلى شفتيها الحمراوين وهما مطبقتان على حافة الفنجال والأهداب مسبلة والعين ناعسة ..
وقال بعد أن رفعت الاقداح :
- سنصل الآستانة غدا ..
- فى أى وقت ..؟
- مع مغرب الشمس ..
فنكست رأسها ووجمت ..
وما كانت تود أن تلقى السفينة مرساها أبدا .. ما كانت تود أن تبلغ بها السفينة الآستانة مسقط رأسها ومرتع صباها .. لم تصب الساعة إلى الآستانة الجميلة .. ولا إلى البسفور الساحر برياضه وقصوره ومتعه .. ولا إلى حيدر باشا أروع الضواحى وأمتع المصايف .. لم تحن إلى أمها الحنون ولا إلى أخيها البكر ولا إلى أحد من ذويها على الإطلاق .. لم تشعر فى قلبها التوقان إلى شيء من هذا كله .. وإنما كانت تود أن تبقى جالسة هكذا مع منى نفسها وطيف أحلامها إلى الأبد .. ودت لو تسير السفينة فى البحر على غير هدى حتى قيام الساعة ..
***
ولما أظهر النهار كانت مستلقية على كرسى فى حجرته وهو على يمناها يطالع لها فى كتاب واستمرا على ذلك حتى لاح الأصيل .. فاعتراهما فى وقت واحد سهوم وفكر وأحسا بقرب الفراق وشعرا بمرارته تحط بثقلها عليهما ..
فقالت بصوت ملتاع :
- هل ستعود من بودابست عن طريق البسفور ..؟
- لم أقرر شيئا عن عودتى حتى الآن .. وربما لا أعود أبدا ..
وآلمها هذا كثيرا .. وقالت وهى ترجف :
- ألا تود أن نتلاقى مرة أخرى ..؟
- من الخير أن لا ..
- لماذا ..؟
وكان صوتها يبكى ..
- لأننا لن نكون كما كنا ..
ثم تنفس وأردف بصوت متغير النبرات :
- الساعة التى تمضى لن تعود .. فكرى فى هذه الأيام التى قضيناها معًا لن تجيء مثلها أبداً .. لن نتذوق ما ذقناه فيها ولن نتمتع بأيام مثلها .. فالاحساس الذى خامرنا لن يعترينا ثانية أبدًا .. لأن ذلك فوق مقدور الطبيعة البشرية والاحساس البشرى .. وإذا التقينا ثانية وكان طريقى على طريقك فيخيل إلىّ اننا لن نظفر بمثل هذه الأيام .. لأننا لن نحس بما أحسسنا به ولن نكون كما كنا ..
فغضت رأسها وخيم صمت عميق ..
ومرت فى مخيلتها صور ماضيها باهتة مستعجمة مغيظة محنقة .. إنها لم تكن فى ذلك الوقت كله شيئا مذكورا .. ثلاثون عاما قضتها من عمرها لم تكن فيها شيئا مذكورا .. لقد مضت شبابها فى شق مظلم من الأرض لا تنفذ إليه الشمس ولا تشيع فى جنباته الحرارة .. برودة وظلام يلفان كل شيء .. ولا شيء غير هذا .. واسود معهما وجه الحياة المشرقة وتغضن ..
من بين كل ألف رجل من هذه القرود الحمقاء التى تنعت نفسها بالرجال رجل واحد ليس إلا فإذا التقت به امرأة كنعمات عرضا .. لم يكن لها وإنما كان لنفسه ..
يا للشقاء الإنسانى ويالقسوة الحياة على المرأة ..
هذا الرجل يعيش لنفسه قبل غيره .. هذا الرجل يعيش على هامش الزمن أبدا .. يقف دائما على باب الحياة يحرن ..! يقف دائما عند دنيا المرأة متردداً يدفع الباب ويخطو خطوة الواثق المطمئن ..؟ أم يقف على الباب يحرن وعلى شفتيه بسمة السخرية المرة ..؟ رجل يعيش لنفسه وألوف من القرود البلهاء الورهاء تعيش للجماعة وتفنى فى الجماعة ..
لم يثور الفرد على الجماعة ..؟ لم يشق الإنسان ..؟ لم تتعذب المرأة فى دنيا الرجل ..؟ لم تترجل المرأة ..؟ لم تطالب المرأة بحق الرجل ..؟ لم هذا الخبل .. لم هذا الجنون المطبق ..؟ لم هذه الهستريا العنيفة .. حق .. مساواة .. حرية ..
ذلك لأنه لم يعد فى هذا الزمن رجال بعد .. ليس فى هذا الزمن رجل يعيش لنفسه .. رجل يعيش لوجوده .. رجل يعيش لدنياه لا لدنيا الأسرة .. ولا لدنيا الجماعة .. ولا لدنيا المعمل ..
لم يعد فى هذا الجيل رجال بعد .. لم يعد فى عصر الفحم والحديد والنار والمعمل رجال بعد .. فنيت حيوية الرجل فى الآلة .. وضاعت قوة الرجل فى الحديد .. وصهر جسم الرجل فى المعمل .. وفنيت شخصية الرجل فى الجماعة ولم يعد الرجل رجلا بعد ..
لم تثور المرأة على الرجل .. لم راحت المرأة مخبولة تعوى وتخرف ..! من هى هذه المرأة التى تطالب بحق الرجل .. أهى المرأة التى تحس فى أعماق نفسها بوجوده .. أهى المرأة التى تلفها سواعد الرجل لفًا وتطويها طيًا ..؟ أبدًا .. هذه العاوية الهاذرة هى التى لا تحس بوجود الرجل مطلقًا ولم تلاق رجلا بعد ..
كل شيء فى هذه المدنية الزائفة نقمة على المرأة ..
كل امرأة فى هذا الوجود حواء ولكن ليس كل رجل آدم وهذا علة الشقاء الإنسانى ..
***
تعشت نعمات مع حسن فى غرفته الصغيرة ولم تشعر فى حياتها بشهية للطعام كمثل شعورها وهى تآكله .. كانت تود لو يدفع الطعام بيده إلى فمها .. كانت تحب لو يضع اللقمة بين شفتيها القرمزيتين ويرقبها وهى تديرها على لسانها مدة ..!
ولما انتصف الليل أو كاد صعدا إلى ظهر السفينة وكان الهواء لينا والظلام حالكا والطبيعة راقدة وجلسا على مقعد طويل فالتصق بها وطوقها بذراعيه وضمها إلى صدره فأخذ جسمها يهتز هزات راعشة ..
وقال فى صوت متهدج :
- سنفترق غدًا ..
فاستراحت على صدره ولم تقل شيئا على أن جسمها كان ينبض راجفا .. ثم رمقته بعينها التى أخذت تخضل بالدمع وهى مائلة على صدره ثانية رأسها إلى الوراء فى سهوم وأخذت تلهث بصوت مسموع .. فصافحت وجهه أنفاسها اللينة الحارة وبصر بصدرها يعلو ويهبط بين يديه فأراحها برفق على المقعد ..
وأخذ يلمس شعرها الناعم بيده وهى مستريحة تماماً .. وظلا على المقعد مدة طويلة وهما سادران مشدوهان لا يحسان بشيء مما حولهما .. حتى أحس بيدها تلمس ذراعه بخفه ومدت ذراعها إليه فطوقته ودفنت وجهها فى حجره وأخذت تنشج وهو فى أثناء ذلك ساكن الجوارح معلق الأنفاس .. ولكن قلبه كان ينبض وعينه غائمة ..
كان أبغض شيء عنده أن يرى امرأة تبكى فجزر دمه بعد أن كان فى مده .. ووقفت دقات قلبه تماما .. فود لو يرمى بها إلى الأرض .. ود لو يقذفها بعيدا عنه .. إنه لا يحب مطلقًا سماع صوت باكية .. وليس أبغض عنده من هذه الحركة العصبية الحمقاء التى تعملها الساعة ..
ارتسمت على معارف وجهه علامات الاشمئزاز والضجر والتأفف .. ولكن نعمات كانت غارقة فى بكاها .. سابحة فى دموعها .. فلم تر مما على وجهه شيئًا ..
ورفعت وجهها الباكى فجأة والدمع يسيل على الخد المحترق ويتساقط لامعا فى غيابات الليل تساقط حبات الدرارى من عقد ..
وارتفقت على حاجز المقعد وهى مائلة على جنبها ثم أخذت تحدق فى عينه الساكنة الملامح جدا .. فأكب برأسه على وجهها وتلاقت عيناهما مدة طويلة .. وألقت ذراعها بعد ذلك على عنقه وعينها معلقة بوجهه وهى تنظر إليه نظرات منكسرة .. ثم قامت بجسمها كله وتعلقت بعنقه وارتمت على صدره وهى تبكى بكاء مخنوقا وأحس بضربات قلبها على صدره فأخذ دمه يضطرب فى شرايينه ويغلى .. عاد دمه يغلى عاد دمه الجازر إلى مده .. فطوقها بذراعيه وضغط صدرها على صدره وقرب قلبها من قلبه وانمحى أمامهما الوجود بأسره وخفت كل شيء وسكن وجمد ومات .. وبقيت ضربات قلبيهما حية تتجاوب فى أعماق هذا السكون ..
وآب إلى رشده تدريجيا وهو شاعر بالحنين البالغ إليها فرفعها عن صدره بخفة .. وأحنى رأسها بيده وهى ترشفه بعينها المخضلة .. وخياشيمها قد اتسعت من فرط البهر .. وأحداقها قد استقرت على وجهه من فرط الحنين .. فمال عليها برقة وقرب شفته من شفتها الملتهبة وضمها إليه .. وضغط على شفتيها بعنف حتى كتم أنفاسها تماما ..
وخيم ضباب كثيف الجلد ..
واستفاقا على صوت صفارة شديدة دوت فى هذا السكون العميق .. فرفعا وجهيهما مذعورين ودارا بعينيهما فيما حولهما – وكانت قد دوت صفارة أخرى – فبصرا بسفينة فى طريقها إلى الشرق فأدركا أن الباخرتين تتبادلان التحية ..
وقال بعد مدة :
- الأوفق أن نقوم من هنا فقد اشتد البرد ..
وانحدرا إلى الطابق الثانى ولما قربا من الممر الذى سيفترقان فيه شد على يدها بعنف فمشت إلى غرفتها متخاذلة ..
ارتمت نعمات على سريرها دون أن تخلع عنها ملابسها ونظرها سادر إلى سقف الغرفة الخشبى الأحمر وكان الدمع قد غاض .. والأنفاس قد خلصت .. والأعصاب قد استراحت قليلا .. ولكن اللوعة بقيت مستكنة .. والاحساس بمرارة الفراق أخذ يشتد .. وانطلق ذهنها كالمحموم يبرز أمامها الصور السريعة الواضحة الغامضة .. ويكر بها إلى ماضيها ويرجع بها إلى حاضرها ..
إن اتصالها بحسن لم يعد حلم الكرى .. طيف سنح فى الكرى ثم ولى ..
وأخذتها عيناها بعد الجهد والضنى .. واستيقظت مذعورة حاسبة أن الضحى قد تلع .. ولكنها رأت الظلام مخيما على الغرفة فهدأت واطمأنت .. وأشعلت نور الغرفة برفق ونظرت إلى ساعتها فألفتها الثالثة صباحا .. أواه .. بعد ساعات معدوات ستصل الآستانة وتفارق حسنا إلى الأبد .. هذا ما كانت تقدره فى أعماق نفسها وبعد ساعات قليلة سيطلع النور .. ويصحو السفر وتعود العجلة الحمقاء إلى سرعتها ..
نزلت من على سريرها بحذر مخافة أن توقظ جارتها .. ولما استراحت أقدامها على أرض الغرفة .. أحست أن كل جارحة فى جسمها تنبض .. ثم خمد كل شيء وسكن .. وحمى ذهنها فجأة وانقلب يقظا .. شعرت بالشوق المبرح إليه أحست بالحنين البالغ لملاقاته فى هذه الساعة من الليل .. أحست فى أعماق نفسها بالحنين البالغ نحوه لابد أن تراه .. لابد أن تراه قبل أن يطلع النور وتعود عجلة الزمن إلى صخبها ..
فمشت إلى الباب وهى ترجف وأدارت مصراعه برفق وخرجت إلى الممشى كاتمة أنفاسها حابسة صوت أقدامها .. لا أحد فى الممشى فالكل نيام وسكون القبر مخيم .. ونور خافت ينبعث من مصابيح حمراء الضوء ودت لو تخمد هذه المصابيح لتسير فى جوف الظلام .. مشت هيابة تتوجس .. قد يمر ضابط بحرى قد يطلع نوتى كل ذلك جائز مشت متثاقلة حتى أشرفت على ممشى السفينة الجانبى .. سهل عليها الأمر الآن .. فما عليها إلا أن تسير فى هذا الطريق خطوات ثم تتيامن فاذا بها فى ممر غرفته ..
ولكن وأسفاه ..!
لما أشرفت على ركن الطريق الأيمن تراجعت مذعورة .. فقد رأت ضابط ( التلغراف اللاسلكى ) واقفا أمام غرفته يدخن ويده فى جيوبه .. وقف الأحمق يدخن ويترقب البرقيات .. وصوت آلته يدوى فى سكون الليل .. لا أحد صاح فى طرق السفينة سواه .. وسقط مصباح الممر الواقف تحته على وجهه الغض الصبوح .. ولمع شعره الناعم .. فاشمأزت نعمات من هذه الخنوثة وتراجعت وانزوت فى الركن .. ودار بخلدها أنه ربما يدخل غرفته بعد دقائق .. فوقفت تسارقه النظر على أن الأحمق تسمر مكانه وهو يرمى الليل بدخان غليونه .. فكرت إلى غرفتها مخبولة ..
***
( 9 )
التقت نعمات بحسن فى ضحى اليوم الثانى وعلى شفتيها بسمة وراءها ما وراءها من هم وشجن .. وأشرق نور الفجر فى ظلام ليلها لما وعدها بقضاء عشرة أيام فى الآستانة عند أوبته .. وشاع فى كيانها السرور .. وانقلبت جذلة مرحة .. وقضيا نهارا ممتعا حتى أطل عليهما الدردنيل بشاهقاته ..
ولاحت الآستانة فى الأصيل عن بعد .. فقالت وهى باسمة :
- سنتنزه الليلة فى البسفور ..؟
- أجل .. ولكنى أرغب فى زيارة جزيرة الأمراء أولا ..
ثم قالت بشجاعة بعد فترة صمت :
- يمكننى أن أقابلك الليلة فى ( ت ) ..
- لا أحب أن تقومى بهذا العمل الأخرق فى أول يوم لك بين أهلك بعد غياب طويل .. تذرعى بالصبر وكونى على يقين بأنا سنلتقى يوما وننعم ..
فأطرقت واجمة ثم سألت :
- أمعك ورقة ..؟
فدفع يده فى جيبه وأخرج بطاقة صغيرة ..
وتناولت قلمه المعلق بسترته وخطت على البطاقة سطرين بخط جميل وقالت :
- ها هو عنوانى فى الآستانة فاكتب إلىّ قبل عودتك .. أما هذا فعنوانى فى القاهرة إن عدت بعد رجوعى إلى مصر ..
فدفع البطاقة فى جيبه وهو يقول باسما :
- أشكرك ..
وسألت :
- متى ستقلع الباخرة غدا ..؟
- عند الغروب ..
- سأجيء لأودعك ..
- لا تحملى نفسك مشقة الحضور من غير داع .. ولا تعرضى نفسك لألسنة الناس من غير موجب ..
- لابد من هذا .. سأجيء خلسة ..
***
وأطلت عروس المدائن وهى رابضة على شط البحر ضاحكة مستبشرة .. أشرفت الآستانة بمآذنها وقبابها وقصورها .. وبرزت أيا صوفيا وهى ذاهبة بمآذنها الأربع فى عنان السماء متحدية بروعتها ما يحيط بها من مساجد ..
- هذه أيا صوفيا ..؟
- أجل .. وهذا المشرف برياضه وغياضه وقصوره هو البسفور .. وستقطعه بك السفينة غدا وهى أمتع نزهة ..
ثم ابتسمت وأردفت :
- أتمنى لك سفرا سعيدا ..
وكان هذا من أعماق قلبها ..
وخفت سرعة الباخرة .. وهدأت حركة آلاتها وهب النسيم لينا عليلا .. وحلقت عصائب الطير .. وغاب قرص الشمس .. واندفعت الباخرة داخل الميناء ..
فقالت بصوت باك :
- سأودعك الآن .. لأن أهلى ينتظروننى على رصيف الميناء ..
فأمسك بيدها وهبطا إلى غرفته ..
ولما احتوتهما الغرفة أرخى ستائر النافذة .. وطوقها بذراعيه .. وضمها إلى صدره .. فاهتز جسمها .. وقد أرعشه البكاء المكتوم .. فشد على عودها .. فى عنف حتى هجع كل شيء حولهما وخمد .. ثم رفع بيده وجهها المخضل بالدمع فى رقة .. فلاقته عيناها الذليلة الدامعة .. فتأثر من هذا المنظر أبلغ تأثير وأخرج منديله الحريرى من جيب حلته وأخذ يمسح لها دموعها المنحدرة على خدها ..
وقال فى عطف :
- ما الذى ستقولينه لأمك عندما تراك باكية ..؟
فلم تجب .. ووقفت صامتة ملتذة من حركة يده على خدها ..
واستمر يمسح لها دموعها الهاطلة وكلما مسح دمعة تساتلت دموع ..
فقال بانفعال :
- وبعدين ..!
فضحكت من خشونة صوته ورنت إليه باسمة ..
ووضع المنديل على عينيها وأخذ يمسح هدبها بخفة وهى مسبلة أجفانها .. ثم أنزله حتى استقر على خدها .. ودلكه بشدة حتى أحمر .. فضحكت .. ونشر المنديل ثم وضعه على أنفها كالخمار فوضح سحر عينيها ..
فقال باسما :
- أنت الآن تركيا القديمة ..
ورد رأسها إلى الوراء وطبع على خمارها قبلة طويلة لم تذق أحلى منها ..
واستفاقت والباخرة ملقية مرساها .. فانفلتت منه وهى ترمقه بعينيها الدامعة .. وسوت شعرها وشيعته بنظرها وغادرت الغرفة وهى سكرى ملتاعة ..
واستلقى على السرير يطالع حتى فرغت السفينة من ركابها فألقى الكتاب على السرير وخرج ..
***
( 10 )
نزل حسن من السفينة إلى الميناء .. وقد أقبلت طلائع الليل وولت جيوش النهار واندفع يضرب فى المدينة على غير هدى حتى شعر بالجوع الشديد .. فمال إلى مطعم فى الطريق ليأكل وجلس بعد الطعام يستريح .. وسمعه إلى الأغانى التركية الشجية التى تذيعها محطة الاذاعة ..
ثم بارح المطعم ومشى فى المدينة يستعرض الحوانيت ويرى المارة بنظرة خاطفة .. ويرمق المطاعم التى كثرت فى الطريق معلقة شرائح اللحم وواضعة بعضه على السفود ليشوى حتى أفغمته رائحة الكباب .. وحركت شهيته أطباق المهلبية المعروضة خارج الحوانيت فى نوافذها الزجاجية .. ومضى فى الطريق حتى قرب من الميناء وأشرف على جسر ( غلطه ) .. فمشى عليه متمهلا وطرفه إلى البسفور على يسراه .. وقد امتلأ بالزوارق البخارية الصغيرة التى أخذت تمرق فى عرضه مروق السهم وهى تتقاذف بالنيران وتتراشق بسهام من نور .. وبصر بسفينته عن بعد وهى رأسية على الرصيف كالطود الشامخ والزوارق الصغيرة تقذفها بألسنة بنفسجية فتلمع جوانبها وينعكس الشعاع على زجاجها المصقول وينكسر .. فيرتد معه البصر وهو حسير ..
واعتمد بمرفقه على حافة الجسر وحدق فى الماء وعاد يذكر نعمات .. فلج به الشوق وبرح .. وأخذ يشعر بالندم على ما فرط منه .. أخذ يندم على ما كان منه .. لم لم يقابلها الليلة كما أرادت ..؟ لم رد امرأة أحبته ..؟ لم دفع عنه متعة واتته ..؟ لم جعل فرصة سعيدة من عمره تفلت منه ..؟ لم جعل ساعة هنية من حساب أيامه تولى عنه ..؟ لحظة من عمره المديد القحل يعيشها لنفسه فلم يردها ..؟ لم يرفضها ..؟
كم من مرة ضيع متع الحياة عن طوع ليرضى بالعذاب المقيم .. ما أشقى المرء فى هذه الحياة الدنيا .. أبدا هو الذى يسعى لشقاء نفسه .. أبدا هو الجانى على نفسه .. ومع هذا فهو دائما يحكم الاقدار ويشكو قسوة الحياة .. وما كانت الحياة قاسية مطلقا لو أخذناها كما تجيء .. لو ألقينا بأنفسنا فى غمارها كما هى ..
لم ردها عما ترغب وتحب ..؟ ما كان أمتعها ليلة لو تنزها فى البسفور ساعة ثم رجعا فمضيا الليل معا .. ما كان أمتعها ليلة لو قضينا الليل معا ، وما كان أجملها متعة بريئة فى ليلة رائعة كهذه .. ما كان ألذها ذكرى ما كان أخلدها ساعة .. كان يذكر هذه الليلة دائما ، كان ينعم بذكرى هذه الساعة ما عاش ..
واستفاق من خواطره على صفير بعض هذه الزوارق وقد استراحت على الرصيف .. قد يحمله هذا الزورق إلى ضاحية نعمات .. قد يقله هذا الزورق إلى ضاحية نعمات فيراها الليلة.. لابد أن يراها الليلة .. شعر بالشوق المبرح نحوها أحس بالحنين البالغ إليها لابد أن يراها الليلة .. ليس فى استطاعته أن يعمل شيئًا قبل أن يراها .. لا يستطيع أن يزور ضاحية أو يرى ناحية من نواحى المدينة قبل أن يراها .. لابد أن يرى نعمات الليلة .. أخذت ضربات قلبه تتدافع .. والزورق البخارى ما زال على الرصيف يزفر .. وبصر بسلم هابط على يمينه فمشى إليه وانحدر إلى رصيف الزورق .. وتقدم خطوات بطيئة كالمتردد .. على أن الزورق كان قد ترنح وجزر عن الرصيف وانطلق فى عرض البسفور كالسهم .. فارسل حسن بصره وراءه وهو يموج الماء ويرسم خطا طويلا على صفحته أخذ ينمحى بالتدريج كلما أبعد الزورق وزادت سرعته ..
واستمر فى مكانه وهو مشدوه غائب الرشد ذاهب اللب .. حتى تراقصت أمامه ثريات السفن الرأسية فى الميناء وترنحت .. وغام كل شيء فى عينيه بالتدريج ولفه ضباب .. فجلس على حاجز خشبى ويده على جبينه الملتهب ..
ومرت مركبات الترام على الجسر .. وهى تتوجع وتئن .. وانطلقت الزوارق فى البسفور تتسابق وتعوى فى جنون .. ولا يعير باله إلى شيء من هذا ولا يلتفت إليه .. لقد كان محصورا بكليته فى نعمات .. لابد أن يراها الليلة قبل أن يخطو خطوة واحدة فى المدينة .. بيد أنه كانت تعوزه القوة التى تدفعه الى ذلك ..
لقد وقف على الرصيف أكثر من زورق وهو مازال جالسا فى مكانه يتردد .. ليست لديه القوة التى تحمله إلى منزل نعمات .. فهناك قوة أخرى جارفة وقفت حائلة بينه وبين ما يحب ويشتهى .. فوقف معها يتردد ..
جلس فى مكانه كالتمثال .. والزوارق تروح وتجئ تحت بصره .. وما استطاع ان ينحدر إلى واحد منها ليحمله إلى نعمات .. لقد ردته قوة جارفة عما يرغب ودفعته عما يحب ..
بارح مكانه وتقدم على الجسر يستقبل من طريقه ما استدبر حتى بلغ نهايته فمال إلى بائع يعرض عصير الفاكهة فى أباريق زجاجية كبيرة .. وجرع كوبا من الليمون بعد أن أحس بجوفه يلتهب .. ثم انقلب إلى الجسر مرة أخرى ولكنه تيامن وبعد عن البسفور بزوارقه وسفنه ..
ولمح عند نهاية الجسر أحد الأندية يمتد على شط الماء وله شرفات طويلة .. امتلأت بالمقاعد والموائد الصغيرة المغطاة بالفرش الحريرية الزرقاء .. فراقه المكان ودلف اليه ..
ودفع الباب الزجاجى للنادى ودخل متباطئًا .. واستوى فى مكان يقرب من الماء .. على أن رأسه كان لا يزال مشتعلا وذهنه محموما .. وعينه غائمة .. فلم يحس بجمال الموقع ولم يدرك روعته .. ورمق المنازل القابعة تجاهه على الشط الآخر وبعضها يغوص برجليه فى الماء وبعضها يطعن بقرنيه السماء .. ونوافذها ترسل الأضواء الحمراء فتتراقص على صفحة الماء وتتمايل .. على أن هذا كله مع فتنته كان يعلوه الضباب .. كانت تعلوه الغشاوة التى غشيت حسن .. وأحس وهو جالس بثقل رأسه على جسمه .. وأخذت رأسه تدور كالطاحون .. لابد أن يغادر هذا المكان ..
ومشى ترمى به الطرقات وتتقاذفه الأزقة حتى أشرف على طريق صاعد قامت على يمناه بعض حوانيت لبائعى كتب قديمة وحديثة فوقف عندها يقرأ عناوينها .. حتى صك سمعه صوت الترام وهو يضج ويتوجع عند صعوده هذا المرتفع الشديد .. فبارح المكان متياسرا حتى الفى نفسه تحت سور عال .. فمضى متثاقلاً .. وأخذت عينه ميدانا فسيحًا فأوسع المجال لخطاه .. ودلف نحوه حتى بلغه .. فتياسر إلى شجيرات قائمة على رأس طريق يمتد إليه .. ووقف تحتها وهو مضنى مكدود .. ورمى بصره إلى أرض الميدان اللامعة على ضوء المصابيح المراقة ثم رد طرفه ووقف ساهما غارقا فى بحار الفكر .. حتى استفاق على صوت مؤذن يدوى صوته الرنان فى جنبات الميدان الفسيح .. وكان العشاء قد حل .. فاستدار وارتد عن الطريق ..
وتقدم فى الميدان فبصر بمسجدين قبال بعضهما ولأحدهما درجات طويلة وصحن خارجى يطل على الميدان وللآخر قبة كبيرة ومآذن أربع فايقن أنه أياصوفيا .. وكان صوت المؤذن رخيما لينًا مطواعًا فنال منه منالاً كبيرًا حتى وقف خاشعا معلق الأنفاس تميد به رهبة الموقف وجلاله .. ورجع المؤذن فى صوت شجى ..
" حي على الصلاة "
فأخذ جسمه يهتز ويرجف .. وتدافعت ضربات قلبه واشتدت .. ونبضت جوارحه جميعا واضطربت .. لقد سمع قبل اليوم أكثر من مؤذن على أن واحدا منهم لم يستطع أن ينفذ بصوته إلى قلبه كما أستقر هذا الصوت .. لقد ضرب المؤذن على الوتر الحساس من قلبه .. لقد تسرب الصوت الشجى إلى أعماق روحه فأيقظها .. كانت روحه غارقة فى سباتها سابحة فى أحلامها فأيقظها الصوت المنبعث من الأعماق .. استيقظت روحه وانتشت .. وكانت مستغرقة فى النوم وعليها غشاوات .. عادت روحه تضطرب داخل جسمه وتغالب .. حتى هيمنت على حواسه واستولت على مشاعره .. عادت روحه إلى قوتها .. رجعت روحه إلى مكانتها من نفسه ..
هذا الهاتف يناديه فكيف يتخلف عنه ..؟ هذا الصوت يناديه فكيف يرده ..؟ لقد تصامم عن مثله قبل اليوم مرات على أنه الآن لا يستطيع .. فلا أحد يسمع هذا المنادى ولا يلبيه .. لا أحد يسمع هذا الهاتف فيتخلف عنه .. حتى عجلات الترام تحبس أصواتها وتتمهل فى سيرها وهى تجتاز الميدان لتسمع .. حتى المركبات تحبس أصواتها فى جوفها وهى سائرة فى الميدان لتسمع ..
وإذا ما قربت من المسجد غشيتها رهبة الموقف ونال منها الصوت فوقفت .. أنها تود أن تملأ سمعها ليصل الصوت إلى جوفها .. ليصل الصوت إلى أعماقها .. فإذا حملها السائق الأحمق على السير مشت متثاقلة آسفة أنها لا تود أن تبارح الميدان أبدا ..
حتى الشجيرات تتمايل أغصانها نحو الصوت وهى طروب تترنح .. حتى الطيور ترسل الشدو على الصوت وهى سكرى تتمايل ..
من الذى يسمع هذا الصوت فلا يواتيه ..؟ من الذى يسمع هذا الهاتف فلا يلبيه ..؟ لقد غشى الجلال الغادين والرائحين فنكسوا الرؤوس وحبسوا الأنفاس وتسابقوا سراعاً إلى المسجد خاشعين ..
فكيف يتخلف ..؟
لقد توقفت العجماوات فى الطريق .. وخفت صوت العجلات فى الميدان .. وشدا الطير على الغصن وترنح الشجر وسبح الوجود كله بحمد الله ..
فكيف لا يسبح ..؟
فجاز الميدان وانخرط فى طريق قاده إلى باب المسجد .. فخلع نعليه ودخل وهو خاشع صامت .. وقلبه يرفض بين ضلوعه من فرط الروعة .. وعقله ذاهب من فرط الجلال .. وذرع ممرا طويلا ثم عطف إلى صحن المسجد فبصر بالمصلين يسجدون لله .. فاعتمد على الجدار مدة وهو معنى مشدوه .. ثم جلس حتى فرغ المصلون من صلاتهم وقاموا إلى الباب صامتين ..
فاستوى على قدميه وأخذ يدور بعينه فى المسجد وهو مأخوذ .. حتى قرب من المحراب فجلس عنده .. ورفع طرفه فبصر باسم الله ورسوله .. فى أحرف ذهبية كبيرة .. فعلق البصر وهو سادر .. ثم قرأ فى صوت دوى فى جنبات المسجد دوى الرعد :
الله محمد
وفحص على ركبتيه وسجد سجدة طويلة ..
ثم رفع عينه الغائمة إلى السقف فلم يبصر غير " الله محمد" تملأ رحاب المسجد بعد أن ملأت رحاب قلبه .. فأخذ جسمه يرجف .. وروحه تضطرب وتتوثب .. رجعت روحه المخدرة تتوثب .. عادت روحه النائمة جامحة تتوثب .. بعثت روحه من رقادها الطويل فرجعت قوية تتملك ..
غمرت روحه كيانه كله ..
محمـــد
لابد أن ترجع لسنة محمد .. لابد أن نحمل المشعل الاسلامى ونرسل الهاتف القوى لينير الطريق ويوقظ الأرواح ..
لقد هجعت الأرواح هجعة طويلة حتى خلناها رقدت رقدة الأبد .. وسارت القافلة على غير هدى حتى دخلت وادى التيه ..
لابد أن نرد القافلة على أعقابها ونبدأ السير فى طريق الحياة من جديد .. والقلب مضئ والروح قوية جارفة .. كما سار محمد ..
لابد أن نرد القافلة على أعقابها قبل أن تلفها الأعاصير ..
لابد أن نرد القافلة على أعقابها قبل أن تأخذها ريح السموم ..
لابد أن نرد القافلة على أعقابها ونسير فى الطريق السوى من جديد ..
لابد أن نوقف العجلة الهوجاء ( المدنية الزائفة ) عند حدها قبل أن تطحننا رحاها فترقد تحتها رقدة الأبد ..
إننا مخلوقات آلية تعيسة بغير روح وتسير فى جوف الظلام على غير هدى وتوغل فى الصحراء الجرداء بغير دليل ..
إننا مخلوقات آلية منكودة تقود نفسها إلى حتفها المحتوم ..
لابد أن نحمل المشعل الإسلامى ونرسل الهاتف القوى لينير الطريق ويوقظ الأرواح ..
محمــد
لابد أن نسير فى الطريق الذى سار فيه محمد
لابد أن نحمل المشعل الإسلامى ونرسل الهاتف القوى لينير الطريق ويوقظ الأرواح ..
محمــد
وهب على صحن المسجد نسيم وانى فرنح القناديل ومايل ..
كل ما فى الوجود يسجد لله ويسبح ..
***
فتح حسن عينه وهو على سريره فى الفندق .. فألفى الظلام لا يزال مخيما على الغرفة .. فسر لهذا وأسند ظهره على حافة السرير ومد يده فأشعل مصباحا جانبيا أزرق الضوء استراحت معه عيناه إلى نوره الأزرق المراق على أرض الغرفة اللامعة .. والتذ وتمطى وكان قد نام نوما عميقا ومضى ليلة هادئة .. ونزل من فوق السرير ومشى فى أرض الغرفة حتى بلغ الشرفة فحسر سترها وحدق فى الظلام .. واستمر واقفا فى مكانه حتى بصر بطلائع الفجر تضطرب فى جوف الظلام .. وكان البسفور قبالته غارقا فى نومه سابحا فى أحلامه .. يتنفس فى هدوء تنفس الحالم .. وقد تألقت قصوره فى جوف الليل وهى تبسم وتتيه عجبا .. كانت هذه القصور أبدا باسمة حتى فى غضون الأيام العصبية التى مرت على الترك .. كانت دائما ضاحكة فى جبين الزمن حتى فى خلال الأيام السوداء التى مرت على الترك .. وحق لها أن تبسم وتتيه عجبا .. فمن الذى يجاريها فى موقفها ..؟ من الذى يربض مثلها على شط البسفور بسحره وروعته ..؟
وأراق الفجر نوره على البسفور فوضحت الرياض .. وهب نسيم الصباح فترنح الشجر وتمايل الغصن .. وقامت الطيور من أوكارها تنفض أجنحتها وتحيى الصباح الجميل .. وأخذ البحر يتمطى ويرسل موجه اللين إلى الشاطئ السندسى .. فيمتزج ندى الفجر مع رشاش البحر .. فينتعش العشب ويتحرك .. ودبت الحياة فى كل شيء ، وراح كل ما فى الجو المحيط يتنفس .. والتهب الشفق بالحمرة وأرسلت الشمس شعاعها فرقص حباب الموج وضحكت عين الجوزاء ..
فارتد حسن عن النافذة ولبس ملابسه على عجل وبارح الفندق ..
***
خرج حسن من الفندق .. واستقل عربة فزار معظم المساجد وبعض الضواحى القريبة حتى ولى النهار فرجع إلى السفينة ..
ووقف فى مؤخرتها يرقب مجئ نعمات لوداعه .. وهو هادئ النفس مستريح البال .. حتى بصر بها قادمة من بعد وهى تهرول .. ثم توقفت لحظة على باب الميناء الداخلى لما استوقفها الجندى كعادته مع الداخلين .. فنزا الدم فى وجه حسن عند هذا واستاء جدا وإن كان يعلم أنه عمل لابد منه ..
ما أشد الرقابة فى تركيا الحديثة وما أدق النظام .. وما أروع مظاهر الجبروت .. كل شيء يعبر عن القوة والنخوة والرجولة الحية .. القوة الجارفة لقوم قطعوا أنفسهم على الشرق المريض فى غير رجعة .. والرجولة الحية فى كل خطوة يخطوها التركى لمستقبل وطنه .. رجل أوربا المريض سيغدو فى المستقبل القريب رجل أوربا القوى ما فى ذلك شك ..
الحق للسيف ومع السيف دائما ..
ولما بصرت نعمات بحسن تألق وجهها .. وغمر كيانها السرور فاهتز عودها .. وأسرعت فى مشيتها وهى تبسم فرفع وجهه محييا وهو جذل مرح .. ومضى يستقبلها عند درج السفينة المعلق .. وصافحها بحرارة ..
وقالت مغمغمة :
- راقتك الآستانة ..؟
- جدا .. ليس بعد هذا سحر .. كل شيء هنا جميل فاتن ..
- وعلى هذا ستعجل بالاياب ..؟
- أجل .. ولو كنت أقدر أن تكون الحقيقة أروع من الخيال .. لا كتفيت بالآستانة ..
- زرت أيا صوفيا ..؟
- أجل عند صلاة العشاء ..
وعاد يذكر رهبة الموقف ..
وقالت وهى باسمة :
- وسرك منظر الجامع ..
- مدهش ..
- مدهش ..!
فضحك وهو يعلم أنه الوصف الذى يفرغه على كل شيء جميل رائع ..
- ستسافر إلى بودابست بالقطار من بخارست أم ستختار طريق الدانوب ..؟
- طريق الدانوب ..
- سترى أروع المناظر إذا ..
ثم أردفت وهى ترميه بنظرة لها معناها :
- وستسمع كثيرا من الموسيقى البوهيمية .. وسترى البوهيميات فى لباسهن المزركش الجميل ..
ثم قالت بصوت موسيقى فاتن :
- أخاف عليك من شقراوات الدانوب ..
واختلطت ضحكتها الفضية النبرات بضحكته الجذلة ..
ودق جرس الرحيل ..
فأمسك بكلتا يديها مدة من الزمن وهى ساهمة ساكنة متكلفة رباطة الجأش بكل ما تملك من حول .. ثم مشى معها متباطئا إلى السلم ويده لا تزال على يدها ووقفا دقيقة صامتين وأنفاسهما معلقة وبصرهما زائغ .. ثم أفلت يدها فى رفق فهبطت مع المودعين ..
ووقفت على الرصيف قبالته ..
ورفع سلم الباخرة .. وأرسلت صفيرها الأول .. ودارت محركاتها وانسحبت عن الرصيف ببطء وثقل شديدين .. انسحبت بمؤخرتها ومقدمتها معا .. أخذت تبعد عن الشاطئ فى حركة استعراضية بطيئة .. أخذت تجزر عن الشاطئ جزر البحر بعد مدة .. وهى تزفر فى غيظ لأن الطريق لم يسو أمامها ولم يمهد بعد .. وزادت حركة المحركات فى حركة عصبية عنيفة ومع هذا فالسفينة لا تزال فى مكانها لأن الطريق لا يزال وعرا .. فزفرت غيظا وترامت بمارج وترنحت حانقة أنها تود السير .. إن جوفها يغلى ويود أن ينفجر مع السير ..
ولكن ربانها كان لا يرى لها هذا الرأى فما زال السير عسيرا وسط هذه السفن المحيطة ..
وأدار الربان السفينة على عقبيها وهى تتميز غيظا وتدفع بأرجلها الماء فتثيره إلى الشاطئ ليصافح رشاشه ثوب نعمات الواقفة قباله حسن ترقب هذا كله وهى منخلعة القلب مستطارة اللب تود لو تسعفها عينها بدمعة ..
وخفت حركة الآلات فجأة فخفق قلب نعمات ربما غير الربان فكره فأجل رحيله ..!
واستقام الطريق أمام السفينة فأرسلت صفيرها الأخير .. وهنا رفعت نعمات منديلها الحريرى الأبيض ولوحت به لحسن فحياها بيده وهو مرح .. وتقدمت السفينة فى البسفور على مهل ونعمات واقفة وعلى شفتيها ابتسامة .. تلوح بالمنديل الأبيض .. وهو يرد على تحيتها بسرور .. شعر بالسرور المحض .. شعر فى أعماق نفسه بالهدوء المطلق حتى وإن كانت الساعة ساعة فراق .. كان يقدر فى أعماق نفسه لقاءها .. كان يقدر أنه سيلاقيها مرة أخرى ما من ذلك بد .. كان يرى أنه لن يحول بينه وبين لقياها إلا الموت .. إذا قطع به الموت الأسباب .. فذلك أمر خارج عن إرادته أما إذا مد حبل عمره فما من اللقاء بد ..
وزادت سرعة السفينة .. واندفعت فى البسفور الرائع .. اندفعت فى البسفور الفاتن أجمل ما تقع على مثله العين فى الدنيا جمعاء .. وأخذ المودعون يتضاءلون على الرصيف .. على أن منديل نعمات كان لا يزال يرفرف فى قلب الغسق .. مازال منديلها يخفق حتى بعد أن اختفى وجهها وضأل جسمها من فرط البعد .. لقد اعتراها إحساس لذيذ استراحت معه جوارحها وانتشت حواسها وهى تلوح بالمنديل ..
إنها كانت ترسل تحيتها فى جوف الغسق .. لليل الزاحف .. للنهار المولى .. للطيف الهارب .. للحلم المدبر ..
لا يزال المنديل الحريرى يخفق ..
ادبر الحلم .. وولى النهار .. وسقط الليل .. ولا يزال المنديل الحريرى يخفق ..
إنها كانت تبعث تحيتها فى جوف الليل .. للطيف المولى .. للحلم المدبر .. للحبيب الراحل ..
==========================
نشرت الرواية فى " كتاب الرحيل " مكتبة الجيب سنة 1935
=========================